قراءة في ديوان (العالم) لأحمد القريناوي

بي دي ان |

21 مارس 2021 الساعة 02:34ص

إنّ لكل تجربة شعرية يقوم بها الشاعر ويبني عليها أفكاره, ويرسم بها ملامح شخصيته وثقافته, إحساساً شعورياً كاملاً, يتدفق من جوانبه ويسير مع مشاعره, قد يتحاور الشاعر مع ذاته, وهذا ما كان لدى الشاعر أحمد القرناوي, الكثير من الحوار الداخلي الذي يستنطق ذاته, ويستخرج مكنونه, وما يختلج في ملامح وجهه, أو يدور بخلده.

"فالحوار الداخلي هو صوتان لشخص واحد, أحدهما هو صوته الخارجي العام, أي صوته الذي يتوجه به إلى الآخرين, والآخر هو صوته الداخلي الخاص الذي لا يسمعه أحد غيره, ولكنه يبزغ إلى السطح من آن لآخر"().
أو كما عرفه الدكتور علي عشري زايد بأنه "ذلك التكنيك المستخدم في القصص بغية تقديم المحتوى النفسي للشخصية, والعمليات النفسية لديها, دون التكلم بذلك على نحو كلي أو جزئي".()
     
ومن خلال دراسة  شعر القريناوي نجد المونولوج موجوداً بكثرة في أشعاره, بل إنه سمة مميزة من سمات شعره, ربما أراد الشاعر أن يرصع بها دواوينه, خاصة أنه يريد أن يلون سماء النص بالحقائق التي كان يعيشها, لتخرج من حين إلى آخر للسطح لترى النور, أو لتطل على وطن ضائع أو شعب متشرد, , وتتطلع لفجر جديد, وأمل حقيقي.
ولعلّ الحوار الداخلي يتجلى في قصيدة (العالم) كما الكثير من القصائد, ولكن في القصيدة نجد أنّ المونولوج يكمن في الصراع الكامن في نفس الشاعر, فيبرز الحوار الداخلي بين الشاعر ونفسه, ولكنّ هذا الصوت خارج لنا لنسمع عذاباته وشكواه, فيقول:
لكن أعتقدُ بأن الناسَ يرون العالمَ أسودَ مثلي
ليس لأن العالمَ أسودَ
لكن الكلمة توحي بسوادِ المعنى 
جئت من الزمن العادي 
لأكتب شعراً عادياً جداً
في هذه القصيدة تتجلى الدراما الشعرية, أو المونولوج الدرامي, فالمونولوج الدرامي هو "عبارة عن صورة, لوحة سيكولوجية لشخصية واحدة, أو دراما مركزة ومكثفة". () 
وهذا ما حدث بالفعل مع الشاعر, الذي يرسم لنا لوحة سيكولوجية لشخصيته في حالة صراع والتأزم  مع يحيط به في هذا العالم, فتبرز سيكولوجية الشاعر المتشائمة والمتأزمة من هذا الواقع الذي يعيش فيه, ويبرز المونولوج في هذه القصيدة من بدايتها, فبدأ بحديث النفس قليلاً قليلاً " لكن أعتقدُ بأن الناسَ يرون العالمَ أسودَ مثلي" ثم بعد ذلك يطفو على السطح شيئًا فشيئًا في حوار داخلي أيضاً في قصة سردية يريد أن يصل بنا إلى ما يريد, فالحوار الداخلي أكثر تأثيراً وإقناعاً من السرد.
فيكمل النص, ويتجلى المونولوج أكثر فيقول:
المغزى: ما مغزى تلك الكلمة 
لا أشعر حين أراها أو أنطقها إلا بتمزق بنطالٍ ضيقْ
العالم 
بنطالٌ ضيقْ
لا أدري
لكن أعتقد بأن الناس يرون بأنا عشنا في آخر هذا
البنطالِ
" ما مغزى تلك الكلمة ؟" هذا التساؤل الذي يلازم الشاعر في هذه القصيدة ربما يكشف عن تيار الوعي, وعن الحلقة المفقودة في إدراك الشاعر ووعيه, والتي يريد الربط بينها وبين الواقع الذي يحياه, فالحوار الداخلي بين الشاعر ونفسه بالتساؤل عن مغزى الكلمة, حيث أطلق الكلمة وأراد بها كل الكلام وكل ما يدور حوله, وهذا النوع من الحوار هو درب من دروب الحوار الداخلي (المونولوج) والذي يسمى بتيار الوعي, 
وأي تيار وعي يدور في ذهن الشاعر أكثر من التأزم والاضطراب الذي يعيشه الفلسطيني, فهو يسقط رؤية الناس لهذا البنطال الضيق ونفررهم منه إلى حالة الضيق التي يعاني منها هؤلاء الناس, 
فتيار الوعي لدى الشاعر هنا يكشف عن مكنون الشخصية, ويثبت لنا أنّ الشاعر  متأثر نفسياً بالقضايا التي يعاني منها مجتمعه, 
فرأينا في قصيدة (استئصال الرحم), أنّ الشعور لديه انصهر في بوتقة الإحساس بالعاطفة والعقل معاً, فالعقل يفهم معنى اجبار الطفل الصغير على شرب الدواء, ويدرك الأثر الذي يحقق هذا الدواء, ولكن الشعور الداخلي للعاطفة الجياشة التي يحياها الشاعر لا تستطيع أن تعبر عن هذه المكنونات, فيغوص في أعماق النفس ليستخرج لنا مشاعره الخالدة وعاطفته الصادقة نحو حب الطفولة, وأن كل دواء كريه وله صورة مؤلمة.
وهذا ما يستدعي حضور الشخصية والحدث الدرامي, فتكون هناك ومضات في أشعاره  تتراوح بين الشعر والنثر أحياناً, في عمل درامتيكي ليحبك بين الشعر والقصة, فيقول :
فيتخللني سكون بغصب كأم تجبر طفلتها لشرب دواء السخونة، 
وأبلع ريقي بصوت يشابه صوت طبول الحروب...
وأسقط
أسقط في داخلي 
فوق فوق 
إلى تحت تحت
وأقلب نفسي 
لأرجع نفسي بنفسي 
إلى فوقي الداخلي 
فتفشل كل قوانين الفيزياء 
ولا تستطيع هنا الجاذبية 
إلا الخجل 
فالحالة التي يحياها الشاعر وكل فلسطيني من تناقضات تحبط به  وتعجزه  عن فعل شيء, وتأتي الأفعال بصيغة المضارع لتدل على أنّ معاناته جزء من الحاضر الذي يعيشه.

و في قصة تتحدث عن تمسك الشاعر بأرضه واعتزازه بوطنه في مزيج من تداخل الأصوات, والذي يجعل من البنية الحوارية بنية سردية متماسكة, 
فالمناجاة الداخلية هي "عملية حوار ذاتي مع النفس تقوم على أساس البوح المباشر للذات بكل ما يدور في خلجاتها".()
هذي بلدتي 
نصف الرصيف قصيدة عجنت بحبر دماء من صبغوا الرمالْ
والحبر يسأل مطلقا عن أصل فولاذ الرجالْ
فمن الذي اخترع البداية من قشور البرتقال؟ 
فهم الذين يؤلفون السجن في أشعارهم 
وينقحون الأرض من قمح رديء 
جاء في القصيدة أكثر من ضمير متكلم ومخاطب, ليضيف الشاعر إحساساً أنّ الحوار إنما يدور بين الشاعر وبين إنسان آخر, لكنه في الحقيقة مناجاة, فالشاعر لم يكن يوجد أمامه أحد إلا نفسه, فكانت شخصية الشاعر تفضي عن مكنونات نفسه على انفراد, في لحظة من لحظات التنوير والإبداع الأدبي 

المرأة :
    جاءت شخصية المرأة في الشعر الفلسطيني المعاصر, لتواكب الحياة مع الرجل, ولتتحمل شيئاً من متاعب الحياة, وقد أنصفها الشاعر الفلسطيني وأعطاها حقها, أو بعضاً من حقها
فنلتمس في ديوان العالم لأحمد القرناوي مكانة راقية وسامية لشخصية المرأة في قصصه التي يوردها عبر قصائد ديوانه, ولا نستطيع أن نحصي هذه الأدوار للمرأة الفلسطينية المشتعلة بالصبر والكفاح والحنان, ففي قصيدة (كبت) تبدو شخصية المرأة في صورة الأم  التي تعد الخبز والدفء والسلام لأبنائها وأبناء الشعب الفلسطيني, فشخصية المرأة لدى الشاعر هي التي ترسم ملامح القصة في أغلب أشعاره, وهو يحاول تسليط الضوء عليها من خلال أبعادها الثلاث: الاجتماعي والداخلي والخارجي, فنرى شخصية المرأة تتجلى بالأم الفلسطينية الجميلة والتي تسعى من أجل السلام, وكذلك البنت الفلسطينية المحبوبة, فيقول الشاعر:
ورنا تجادُل خصلة الشعر الشقيِّةِ في مرور الريح قبلي
لا أرى ما لا أرى إلا رنا
*
أمي على سطح الحقيقيةِ
تخبز المعنى سلاماً
ثم تحمي ضوء غرتها الطويلة من سلام النارْ
وتعيدُ ما خبزت لشعبي دائماً
فالجوع أولهُ انتظارْ
وفي هذه القصيدة مثلاً يتجلى دور المرأة الفلسطينية, التي تسكن في مخيمات اللجوء, بعد أن طردت من أرضها ووطنها الفلسطيني, فهي تعيش في الغربة واللجوء,  فالصورة هنا تتمثل في أنَّ هذه المرأة تحارب الجوع واليأس وتنشر السلام, 
    وعبارة " أمي على سطح الحقيقيةِ " تعبير عن الصورة الحقيقية للفلسطينية التي تحارب كل الظروف من أجل أن يعم السلام, وكأنّ الشاعر يريد أن يقول أنَّ هذه هي حال المرأة الفلسطينية الحقيقية, بعد أن فقدت أرضها وبيتها, ثم يكمل الشاعر رسم صورة المرأة الفلسطينية بقوله:
أبحث عما تبقى وعن أثر في الأظافرِ
كنت عشقت فتاة هنا 
واسمها 
كان يبعث نحو النهاية منذ البداية
"آثارُ"، كان اسمها
ثم غابت...
وآثارُ كانت موسيقاي دوماً
ولكن تمكن منها النشازُ
وصارت نشازاً
وآثارُ كانت حقيقة عمري الوحيدةُ
لكن تمكن من المجازُ
فصارت مجازاً

ويستكمل الشاعر صورة المرأة بصورة حزينة التي رسمها الشاعر لدور المرأة, ربما هي نابعة مما يراه الشاعر من حالة الضياع والتشرد التي يحياها الفلسطيني بسبب الهزيمة والنكبة.
وفي ديوان العالم نجد أنّ شخصية المرأة تتميز بسماتٍ مختلفة ومتعدّدة, رسمها الشاعر بصورٍ مميزة وكثيرة, ورغم أنّه يصعب علينا تتبع أشعاره لكننا نراها في الدواوين كثيرة, ومنها على سبيل المثال في قصيدة "بديهيات" يقول:
فَتَحَتْ ذراعيها وغطتْ بابها فيها
وقالت: لن أدعكَ تمرُ مني
قلتُ ما ذنبي أنا؟
قالت: عيوني منكَ أنتَ حزينةٌ, وعليكَ تُرضيها
قلتُ أمرُكِ سوف أُرضيها
ثمَّ شدتني إليها من قميصي...
قلتُ: مهلاً
إنني كُلِّي إليكِ, إنني رهنُ يديكِ
ففي شخصية المرأة في هذه الفقرة الشعرية تتجلّى سمات الشخصية العاشقة.
وأخيراً أستطيع القول إن شاعرنا أحمد القريناوي, أبدع في استخدام ومضات في أشعاره  تتراوح بين الشعر والنثر أحياناً, في عمل درامتيكي وضمنها بنية النص الشعري.