ندوبٌ خفية.. الضغط النفسي كَجبهة منسيّة في الحروب

بي دي ان |

06 أغسطس 2025 الساعة 02:22ص

صورة تعبيرية
في الوقت الذي تسلط فيه الكاميرات المشاهد على البيوت المدمرة والموت الوشيك، يَغيب عن المشهد جانب آخر لا يقل فتكاً، حيث يختلط صوت القصف بأنين الأرواح، الحرب داخل غزة ليست فقط مجرد معركة بالسلاح والدمار بل هي معركة خفية تخترق اعماق الروح وتترك ندوباً لا ترُى، لكنك تقرأها بوضوح في رجفة الأجساد وتجاعيد الوجوه وصمت البراءة. 

شهود على الحدث 

تقول السيدة سميرة حسن نازحة في مخيم الصمود شرق مواصي خانيونس: "لدي خمس أطفال جميعهم تحت سن الحادي عشر وجميعهم يعانون من التبول اللاإرادي منذ بدء الحرب، وهذه الحالة بدأت لديهم منذ أن قصف الاحتلال المنزل المجاور لنا ونجونا بقدرة الله عز وجل، أما طفلي الصغير أتم عامه الثالث قبل أيام ويعاني من صعوبة في النطق والتواصل مع الآخرين، قمت بعرضه على أطباء في المشفى، ولكن أخبروني أنها مشكلة نفسية ويحتاج طبيب نفسي لتشخيص هذه الحالة، وتم عرضه على عدة أطباء أكدوا لي أن طفلي يعاني من صدمة نفسية حادة نتيجة الخوف الشديد الذي تعرض له، وأنه يحتاج لجلسات دعم نفسي عاجلة ومستمرة، لكن للأسف لا يوجد متخصصون كفاية في المخيم أو حتى أي مركز تأهيل لعلاج الأطفال نفسياً"

وتتابع حسن بنبرة مخنوقة: " أبقى مستيقظة طوال الليل أحاول إيقاظهم لدخول الحمام، وأحاول مواساتهم وتهدئتهم من أصوات الرصاص والقصف".

 كما تضيف: " أريد أن تقف هذه الحرب اللعينة، أود إنقاذ ما تبقى من روح أطفالي المكسورة، وتعويضهم عما حدث، أناشد العالم أن يوقف هذه المذبحة وينهيها قبل أن نخسر ما تبقى منا"

وبدورها، تذكر المرشدة النفسية (أ.خ) التي تعمل في أحد مدارس الأونروا، والتي تعد ملجأ للنازحين في جنوب قطاع غزة، تقول:" أحاول دائماً أن أضيف بين حصص الطلاب بعض الأنشطة الترفيهية لتغيير الجو العام، حيث يظهر على وجوه الطلبة أثار الذعر والخوف والجوع، أقدم لهم بعض الهدايا من حينٍ لآخر على حسابي الخاص بسبب قلة الدعم الواصل لهذه المدارس، ولكن مهما فعلنا لا يمكننا تغيير نفسية الطالب لأنني أواجه عدد كبير من الطلبة الذين فقدوا والديهم أو أحد أفراد أسرتهم."

وبذات الوقت، تكمل:" عندما أسمع قصص الطلاب أكاد أفقد عقلي كيف لطفلٍ صغير أن يتحمل هذا الفقد والألم الكبير، لهذا أناشد كبار ومسؤولين الصحة النفسية في غزة والمنظمات العالمية أن تتخذ إجراءات لحماية هؤلاء الأطفال من تدهور حالتهم النفسية، وتقديم يد العون والمساعدة لهم، أدعوا الله أن تتوقف هذه الحرب قريباً". 

 انهيار منظومة الصحة النفسية 

ومن جانبه، أكد الدكتور خليل شقفة مدير عام الصحة النفسية المجتمعية بوزارة الصحة، أن الاحتلال قد تعمد استهداف الصحة النفسية للغزيين، من خلال منع أدوية الطب النفسي التي يكاد يعدم وجودها داخل القطاع، ما ادى إلى إخراج غالبية مراكز الصحة النفسية عن الخدمة، وقام أيضاً بقصف المستشفى النفسي الوحيد في قطاع غزة.

نقص الرعاية النفسية

وفي ظل حرب الإبادة الإسرائيلية التي تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر /2023، يعاني قطاع غزة من نقصٍ حاد في الكوادر المختصة بالصحة النفسية، فعدد الأطباء النفسيين داخل القطاع لا يتجاوز 30 طبيباً يخدمون أكثر من 2 مليون مواطن، حتى مراكز التأهيل خلال الحرب لا تملك الأدوات اللازمة لمعالجة الحالات أو حتى بيئة أمنة لإستقبال المرضى والتعامل معهم. 

آثار طويلة الأمد

يُعاني غالبية أرباب الأُسر في هذه الحرب من الإكتئاب والقلق الشديد؛ بسبب تدهور الأوضاع وضياع مستقبل الأطفال وصعوبة في العثور على قوت يومهم، ما ينقل هذه المشاعر السلبية للأطفال دون قصد، ما يسبب تدمير الروابط الأسرية تأثيراً واضحاً على تدمير الروابط الأسرية، وانعكاس الأثر النفسي على الأطفال مثل إضرابات التبول اللاإرادي، التي تعود لضغط نفسي حاد.

والبعض الآخر يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة والتي تظهر أعراضه لدى نسبة كبيرة من الناجين خاصة الأطفال مثل كوابيس، نوبات فزع، إنسحاب إجتماعي.

انتشار الاضطرابات النفسية في قطاع غزة

علاوة على ذلك، أكد أطباء حسب دراسة 2025(conflict and health) أن حوالي 83.5‎%‎ من سكان قطاع غزة يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة(PTSD) و 72.7‎%‎ أبلغوا عن اكتئاب من متوسط الى شديد، 65‎%‎ يعانون من قلق متوسط الى شديد. 

أما بالنسبة للأطفال حسب ما وثقه (war child) والدراسات الميدانية، أن 79‎%‎ من الأطفال يعانون من كوابيس مزعجة، و 73‎%‎ منهم يعانون من السلوك العدواني، و90‎%‎ يعانون في المستشفيات من حالة قلق نفسي شديد، و82% منهم يشعرون أن الموت قريب.

والجدير ذكره، أن الأطفال والنساء أكثر الفئات المتضررة في هذه الحرب، وأن التعرض المتكرر للعنف والتهجير يؤدي الى أرق مزمن وكوابيس ويقظة مفرطة عند الأطفال والراشدين، ما يعكس تدمير في الحالة النفسية في ظل استمرار العدوان. 

وأكد الأطباء على ضرورة توفير دعم نفسي وبرامج تأهيل متخصصة تساعد الاطفال والنساء على تخطي آثار الحرب واستعادة توازنهم النفسي، وشددوا على اهمية تكثيف جهود الجهات المحلية والدولية لتوفير مراكز علاج وتأهيل للمرضى تتابع معهم باستمرار.

أمام هذا الواقع المتفاقم يبقى شعبنا بحاجة ماسة الى دعم حقيقي يتجاوز الإغاثة المادية، ليشمل الرعاية المعنوية، فالحروب لا تترك شظاياها في الجسد فقط، بل تزرع ندوباً داخلية لا تندمل، وقد لا تشفى إلا بوعي مجتمعي ودولي يدرك أن الصحة النفسية هي جزء لا يتجزء من بقاء الإنسان.