إمبريالية اللغة الإنكليزية

بي دي ان |

20 أغسطس 2023 الساعة 09:38م

الكاتب
لا اضيف اسهاما للوعي الجمعي الفلسطيني او العربي او العالمي، عندما اعيد التأكيد على أهمية ومركزية دور اللغة في هيمنة شعب على شعب آخر، لانها بوابة مطلق ثقافة في ترسيخ مكانة استعمار أي دولة على دولة او مجموعة دول أخرى. لان السيطرة على الوعي الجمعي في أوساط شعب من الشعوب عبر اللغة وادواتها المعرفية والثقافية يعكس عمق هيمنة الدولة الاستعمارية على مستعمريها. ويؤكد قدرتها على فرض اجندتها وأهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية في البلد المحدد. وبمقدار ما تصبح لغة الدولة الاستعمارية لغة الشعب او الشعوب المستعمًرة، بمقدار ما تبقى هيمنة الدولة الاستعمارية قائمة، حتى لو انسحبت تلك الدولة من أراضي مستعمراتها.
لان الشعوب بمختلف مستوياتها وقدراتها حين تذعن لهيمنة لغة من اللغات، فإنها تصبح عمليا أسيرة ثقافة الشعب والبلد صاحب اللغة الأصل، كونه يستقي معارفه وعلومه من مركز النبع اللغوي، حتى انه يعيد انتاج موروثه الحضاري وفق منظومة اللغة المهيمنة، ويبدأ بالتخلي التدريجي عن لغته وثقافته، حتى وان كان هناك من يمانع، او يرفض الاستلاب الثقافي. لكن سيف اللغة بتار، وقاطع ويجتاح كزلزال تسونامي مركز عصب اللغة الام، ويعزلها الى زوايا مظلمة في أوساط شعبها، ويبعدها كليا عن روح المجتمع والحياة والتطور، مما يفقدها اهليتها ودورها في مسقط رأسها.
اللغة الإنكليزية التي كان عدد المتحدثين بها في نهاية عهد الملكة اليزابيث الأولى عام 1600 لا يزيد عن (4) ملايين نسمه من أهلها في الجزر البريطانية، امست بحلول عام 2020 في نهاية عهد الملكة اليزابيث الثانية تستحوذ على (2) مليار انسان حول العالم، فهي اليوم اللغة الأساسية لكل من المملكة المتحدة وايرلندا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزليندا، كما انها لغة "داخلية" في المستعمرات البريطانية السابقة مثل الهند وسنغافورة وجنوب افريقيا ونيجيريا. فضلا عن حرص العديد من شعوب الأرض الى اعتمادها لغة ثانية في بلدانها. مما منحها هيمنة امبريالية في عالم اللسانيات. لا سيما وان الدول الأقطاب التي تتحدث بها، استطاعت من خلال نفاذ وسيطرة اللغة الإنكليزية لفرض رؤيتها واجندتها القومية على الشعوب المتحدثة بها، حتى ان البعض وصف سطوتها الامبريالية بالاسطورة اليونانية "هيدرا" او الثعبان صاحب الرؤوس التسعة، الذي يحرس مدخل العالم السفلي من الأرض.
ولتحرر الشعوب والبشرية عموما من هيمنة اللغة الإنكليزية، وازاحة سطوة القوى الانكلوسكسونية بقيادة الولايات المتحدة عن قيادة العالم تستوجب الضرورة العمل على الاتي: أولا تمسك وتعزيز الشعوب المختلفة بلغاتها الام، وعدم التخلي عنها تحت أي ظرف من الظروف؛ ثانيا تطوير لغات الشعوب الاصلية بحيث تهضم مختلف مناحي العلوم والمعارف، وادماج المنظومة الرقمية في مركبات ومكونات تلك اللغات؛ ثالثا عدم التنازل عن اللغات الاصلية، ورفض فكرة توطين اللغة الإنكليزية مكان اللغة الام. لان هذا الخيار بمثابة التفاف استعماري على اللغات الام؛ رابعا التأصيل للموروث الحضاري للشعوب باللغات الام؛ خامسا التركيز في مجمل المعاملات الرسمية والأهلية وفي وسائل الاعلام وفي المخاطبات مع الوفود الأجنبية باللغة الام، وعدم الاستخفاف بها امام هيمنة اللغة الإنكليزية الامبريالية.
وعلى صعيد الوطن العربي، تملي المصلحة الوطنية والقومية العربية تعزيز مكانة اللغة الام، التي تحتل مكانة مرموقة عالميا، وتضاهي وتنافس اللغة الإنكليزية في سعتها وقوتها وقدرتها على هضم كل المفاهيم والمصطلحات العلمية الجديدة عبر تعريبها وتوطينها في اللغة الام. وعدم التماهي مع اللغة الاستعمارية، والكف عن التباهي بامتلاك اللغة الإنكليزية، والفذلكة الزائدة في استخدام مفرادتها ومصطلحاتها لإظهار الذات امام الاخر الانكلوسكسوني، الذي يسيء لمكانة الانسان الفرد، وللمجموع، لان الحديث بلغة الاخر، يمنحه استعلاءً وغطرسة.
وطبعا لا يعني ذلك عدم تعلم اللغات الأخرى وخاصة الإنكليزية، ولا انتقاصا من مكانة المثاقفة، ولا عزلا للذات عن الشعوب والثقافات الأخرى، ولا تقليلا من دور واهمية الترجمة للثقافات الأخرى، وانما درءا للاخطار الناجمة عن هيمنة اللغة الامبريالية، وابعادا لشبح ثقافة التغريب التي لا تتوافق مع الموروث الحضاري لشعوب الامة العربية، وصونا وحماية للغة الام، اللغة الحية والمتجددة، القادرة على مضاهاة اللغات الأخرى بما في فيها وعلى رأسها اللغة الامبريالية. التي يجب اعادتها الى مربعها، وموطنها الأصلي. ولهذا دور هام في ظل الانزياح التدريجي لعالم متعدد الأقطاب، حيث تسعى الأقطاب الدولية الأخرى وخاصة الصين وروسيا الاتحادية وحتى فرنسا واسبانيا وألمانيا واليابان واندونيسيا وتركيا وايران وغيرها تسعى لتعزيز لغاتها الام، والخروج من دوامة الهيمنة الامبريالية للغة الإنكليزية.          
ما تقدم، استخلصته من قراءتي لبحث ماريو ساراسيني المعنون ب"إنهاء استعمار اللغة الإنكليزية: كيف ندعو إلى التعددية في عالم تهيمن فيه لغة واحدة؟" نشر في مجلة "آيون"، وأعيد ترجمته وتحريره بتصرف من قبل نواف رضوان في موقع "عرب 48" يوم الاحد الموافق 13 آب / أغسطس الحالي (2023).
[email protected]
[email protected]