فرنسا على مفترق خطر

بي دي ان |

02 يوليو 2023 الساعة 12:19ص

الكاتب
العنصرية في الغرب الرأسمالي الانكلوسكسوني والفرانكفوني متأصلة وعميقة، ورغم وجود عقود اجتماعية ذات صبغة ديمقراطية تنظم العلاقة بين الحكام والمحكومين، الا ان المجتمعات الغربية دونما استثناء، وأي كان مستوى حرية الرأي والتعبير فيها، بيد انها تتنفس عنصرية، وكراهية للاخر عموما والمواطن العربي والإسلامي خصوصا، وتجد انعكاسها في سلوكيات السلطات التنفيذية وجهاز الشرطة الاكثر التصاقا بقضايا ومصالح المواطنين في هذا البلد او ذاك. وهناك تغذية دائمة للاسلاموفوبيا، وتحريض معلن ومفضوح وعار من القيم والأخلاق، وتتجاهل المؤسسات الأمنية والدينية والثقافية الغربية عموما عن سابق عمد وإصرار نواقص الغرب، وتاريخهم الأسود الناجم عن حروبهم الداخلية والبينية، ومع وعلى شعوب الأرض بهدف نهب ثرواتهم وافقارهم، والحؤول دون تطورهم.
في قراءة الاحداث المختلفة عادة يكون هناك أسباب ظاهرة، وهناك أسباب وخلفيات مضمرة، وقد لا تبدو للمشاركين من عامة الشعب هنا او هناك، ولكن المتابعون والعارفون بخفايا الأمور يدركونها، وقد تضيع في لجة الاحداث والتطورات المتسارعة والغاضبة والانفعالية. لا سيما وان القوى الخفية المؤججة والصابة الزيت على نيران الاحداث توجه وسائل الاعلام للتركيز على الدافع البائن، والسبب المباشر لها. واحيانا كثيرة بشاعة الدافع الرئيس والمباشر يستحوذ على الرأي العام، ويطمس الخلفيات الحقيقية. لذا ساركز في قراءة المشهد الفرنسي الدامي منذ يوم الثلاثاء الماضي على الدافع الرئيس لاشعال فتيل السخط والغضب داخل المجتمع الفرنسي. لان القفز عن الحدث الخطير الذي أدى لاعدام طفل بذرائع كاذبة من الشرطة الفرنسية، يعتبر هروبا من تسليط الضوء على ما يعانيه المجتمع الفرنسي. وهو كما ذكرت ليس استثناءً ولا فريدا من نوعه في الغرب، ولكن فرنسا صاحبة ثورة النور تحوز على أهمية خاصة لما تتصف به من مكانة مميزة في الأوساط الغربية، عندما تفوح منها رائحة العنصرية الفرانكوفونية الاستعلائية، مما يحتم تعريتها، وكشف المستور من مثالبها ونواقصها، وقراءة خطورة انعكاسات تلك التقرحات الدامية على المجتمع ككل، وعلى المستهدفين بسموم العنصرية خصوصا.  
وعنوان الحدث الدامي تمثل في جريمة قتل الطفل الفرنسي جزائري الأصل نائل (17 عاما) في نانتير احدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس صباح يوم الثلاثاء الموافق 28 حزيران / يونيو الماضي، الذي شكل نموذجا مصغرا للعنصرية الفرنسية الفرانكوفونية ضد العرب والمسلمين، مما اشعل نيران السهل الفرنسي كله في مساء ذات اليوم، حيث شهدت احياء عديدة في عاصمة "النور" صدامات واشتباكات بين المواطنين ورجال الشرطة، وحرق السيارات ومكبات النفايات والمؤسسات الحكومية والخاصة.
وجريمة الفصل العنصري الجديدة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، وحسب صحيفة "لوباريزيان" الفرنسية، ووفق التحقيق الذي كتبه نيكولا غوينار وكارولين بيكيه وجان ميشيل ديكوجي الذي اكدوا فيه، ان المؤسسة الفرنسية الحاكمة بعد صعود ماكرون لسدة الرئاسة، عملت بشكل منهجي على أولا إقصاء المؤسسات الإسلامية الرسمية التي كانت تعمل على توثيق جرائم الاعتداء على المسلمين. وقد خُل كل من "التجمع ضد الاسلاموفوبيا في فرنسا" عام 2020، و"التنسيقية ضد العنصرية والاسلاموفوبيا" عام 2021، كما همش دور المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية؛ ثانيا كشفت "ميديابارت" ان وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية المختصة رفضت الكشف عن عدد المساجد التي تعرضت لاعتداءات عنصرية، وتواريخ واشكال الاعتداءات. ونقل الموقع عن النائبين إيزابيل فلورين "الحركة الديمقراطية" ولودوفيك مينديز" عن "تيار النهضة" قولهما، ان حوادث الاعتداءات على أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين لم تنقطع منذ عام 2018؛ ثالثا ذكر التحقيق، ان تحليل الأرقام والمعطيات الموثقة يثبت وجود ارتباط وثيق ما بين ارتفاع وتيرة الاعتداءات ضد المسلمين وضد اماكن العبادة الإسلامية، وبين حملات التحريض الإعلامية الممنهجة التي تشن ضد اتباع الديانة الإسلامية في وسائل الاعلام الفرنسية، وخاصة في اعقاب أي حدث إجرامي يرتكبه متطرف من مجموعات التكفير الذين لا يمتون للاسلام الحنيف بصلة. وانعكاسا لتلك السياسة، اكد تقرير ميديابارت، ان وزير الداخلية، جيرالد دارمانان لم يهتم ويتفاعل مع الاحداث التي تتعرض لها المعابد الا 12 مرة، مع ان الاعتداءات بالمئات، وكان ذلك على صفحته في "تويتر"، ومرة واحدة التي بادر فيها لزيارة مكان الحدث، وكان ذلك بعد الاعتداء على مركز "ابن رشد الثقافي" في مدينة رين في 11 نيسان 2021، في حين لم يترك أي حدث يتعرض له أي مواطن فرنسي من اتباع الديانات الأخرى وخاصة اليهودية الا ويكون في مقدمة الموجودين في مكان الحدث. وهو ما يكشف عن اهمال فاضح لقصر الاليزيه وحكومته العنصرية.
جريمة قتل الطفل نائل ابن ال17 عاما بتداعياتها كشفت المستور الفرنسي العنصري، واماطت اللثام عن حكومة لم تلتزم بالدستور والقانون الفرنسي، وانما عملت وتعمل وفق اجندة التمييز والقهر للفرنسي من اصول عربية او اسلامية، وهذا ما أكدته مختلف ردود الفعل الفرنسية والأوروبية والأميركية والاممية وطبعا العربية والإسلامية. لان الشواهد كبيرة وتزكم الانوف، وتعمي العيون، ولا مجال للتغطية عليها.
والاهم مما ورد، هو التداعيات التي تحملها التطورات الدامية في فرنسا، والتي طالت العديد من المدن، وليس العاصمة باريس فقط، وانتشار الأربعين الفا من الشرطة لن يوقف النيران المشتعلة ردا على جريمة مقتل الطفل الجزائري الأصل وحيد والدته، واذا لم تتخذ الاليزيه والرئيس ماكرون شخصيا مواقف جدية ورادعة ضد سياسات وزارة الداخلية وأجهزتها الأمنية، فإن الأمور ستذهب بعيدا، وتضع فرنسا على مفترق طرق خطر يتجاوز احداث 2005، وقد يضاهي ثورة 1968، لان البطون حبلى، والسخط والغضب بلغ حد الغليان والانفجار. فهل يدرك الرئيس الفرنسي ذلك؟
[email protected]
[email protected]