البائس ترامب.. وانقلابه الفاشل

بي دي ان |

08 يناير 2021 الساعة 04:24م

قطعاً، ليست هي المرة الأولى التي تحدث فيها مواجهات دامية في التاريخ الأمريكي، لكنها سابقة تاريخية لأنها تمت بدعوة مباشرة وبتحريض علني من الرئيس المنصرف دونالد ترامب، ولغرض سياسي غير دستوري، لذلك سيكون لواقعة اقتحام الكونجرس تأثيرات عميقة على السياسة الأمريكية في العقد الحالي، فلأول مرة يقود رئيس أمريكي محاولة انقلابية مكتملة الأركان عبر مجموعة من الغوغاء اليمينيين الذين اقتحموا المقر الرئيس للسلطة التشريعية، وإذا كنا نصف ما حدث بأنه محاولة انقلاب فاشلة، فإننا لا نقصد بحال أنه انقلاب على الرئيس المنتخب بايدن، وإنما انقلاب على العملية الديمقراطية نفسها، رغم أن هذه المحاولة اليائسة لن تمنع وصول بايدن إلى البيت الأبيض قبل نهاية الشهر الجاري.

كانت جلسة توثيق نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة قياسية في عدد الساعات التي استغرقتها، وربما لن تتكرر مثل هذه الجلسة مستقبلاً، فقد استمرت عملية التوثيق التي تقاطعت معها أعمال عنف 9 ساعات و48 دقيقة، وهي التي في العادة لا تتجاوز60 دقيقة، أما النواب الجمهوريون داخل الكونجرس والمتظاهرون خارجه فيمكن اعتبارهما وجهان لعملة واحدة، فقد حرَّض كلاهما على عملية انقلاب فاشلة، فما كان للغوغاء أن يحتشدوا خارج المبنى من دون تحريض السياسيين في الداخل، ورغم أن هؤلاء السياسيين تبرؤا مما حدث، إلا أنهم في الحقيقة يتحملون جزءاً لا يستهان به من مسؤولية ما جري، فلو اعترف ميتش مكونيل، زعيم الأغلبية الجمهوري وزملاؤه في مجلس الشيوخ بالفائز في الانتخابات الرئاسية التي جرت أوائل شهر نوفمبر لما كان هناك غوغاء خارج الكونجرس.

بسبب فشلهم في إقناع الناخبين للتصويت لصالحهم، قرر الحزب الجمهوري ومعهم ترامب بكل تأكيد إقناعهم بأثر رجعي عبر شحن الغوغاء طوال أسابيع ثم أطلقهم الأربعاء، ليصبحوا كمَنْ أشعل فتيل قنبلة وألقاها، ورغم أنها لن تمنع بايدن من كرسي الرئاسة، إلا أن تلك المحاولة تُعد جزءًا من حملة الجمهوريين لنزع الشرعية وإضعاف الإدارة القادمة، وكان من اللافت وقف فيسبوك وإنستجرام حسابي ترامب حتى نهاية فترة ولايته، أما تويتر فسيعيد فتح حساب الرئيس المنصرف خلال 12 ساعة بعد قيامه بحذف تغريدات مضللة ومحرضة كتبها سابقاً.

لم تكن واقعة الأربعاء التراجيدية وليدة اللحظة، فقد مر وقت طويل في الإعداد لها، فطوال سنوات الماضية ظل غضب الرجل الأبيض يتراكم ويتكدس، وهو غضب يغذيه الجميع بدءًا من ترامب إلى الاتحاد القومي الأمريكي للأسلحة، مرورًا بقناة فوكس نيوز، ومختلف النقاد اليمينيين، والحزب الجمهوري، والشخصيات المختلفة المؤيدة لتفوق البيض، وانتهاءً بالجماعات اليمينية المتطرفة مثل جماعة" الأولاد الفخورون"، وهو ذات الغضب الذي حاول نزع الشرعية عن رئيس الأسود باراك أوباما بدعوى أنه لم يولد في الولايات المتحدة، وهو بذلك لم يكن مؤهلًا ويجب عرقلة ترشحه لمنصب الرئيس، ببساطة هو غضب ضد المساواة أمام القانون الأمريكي.

يقيناً، فإن العنف الذي شاهده العالم على الهواء مباشرة داخل مبنى الكابيتول، تصرف استبدادي بامتياز، ووسيلة يائسة لمحاولة إجبار الآخرين على الخضوع لإرادة الجناة، على أنه يمكن تفسير هذا العنف من جانب الرجال البيض بأنهم كانوا لمدة طويلة الأشخاص الوحيدين الذين يتمتعون بالسلطة في أمريكا، وهم يتخيلون أنفسهم الآن غرباء ومهمشون ومضطهدون، لأن الآخرين أصبح لديهم أيضًا قوة وصوت، ولهذا فإن هذه المحاولة الانقلابية تشكلت من خلال أيديولوجية العنف التي رأيناها مرارًا وتكرارًا، في عمليات إطلاق النار الجماعية التي أصبحت قاعدة في أمريكا خلال القرن الحادي والعشرين، والمبالغة في حيازة البنادق والدفاع عن حقوق حمل السلاح؛ الأمر الذي جعل آلات القتل والموت شائعة للغاية، لدرجة أن الوفيات الناجمة عن استخدام السلاح فاقت مؤخرًا الوفيات الناجمة عن حوادث السيارات، وهي أحد الأسباب الرئيسة للموت في أمريكا.

برهن ترامب وأنصاره على أنهم غير ملتزمين بأي شيء، إذ يتوقعون الحصول على كل شيء يريدونه، ولهذا فإن استخدامهم لكلمة الاستحقاق الانتخابي يجافي تمامًا أي وصف حقيقي لمعنى هذه الكلمة، وقد كان مقدرًا أن هذا الصدام سيحدث دائمًا، لأن سلطة ترامب كانت محدودة في المدى والمدة بموجب القانون، ونظرًا لأنه يريد أن تكون هذه السلطة غير محدودة، فقد دخل في حالة حرب مع القانون، وكان لديه دائمًا جيش متطوع مستعد لمساعدته على أخذ تلك السلطة، واليوم يتصرف هؤلاء باعتبارهم جيشًا، أو قوة احتلال في العاصمة واشنطن، وهذا ما أراده وهذا ما دبَّره ورفاقه من الغوغائيين.

لا شك أن ترامب أكبر رئيس كذاب على الإطلاق حكم الولايات المتحدة، وأكاذيبه جزءًا أساسيًّا من سلطويته، وخلال ليلة الأربعاء الدامي، التي لن تنساها أمريكا، ظهر ترامب في مقطع فيديو مسجل مطالباً جمهوره بالعودة إلى منازلهم، لكنه عاد مجددًا للتأكيد على أن الانتخابات سُرِقت، وهذا في المقام الأول هو سبب وجودهم أمام مبنى الكونجرس، ويبدو أن ابنة الرئيس إيفانكا حذفت تغريدتها التي وصفت فيها المقتحمين للمبنى بـ"الوطنيين الأمريكيين"، وهذه محاولة بائسة جداً لنزع الشرعية عن الإدارة القادمة، وأغلب الظن أن مؤيدو ترامب سيظلون على اعتقاد بأنهم فوق القانون وأنه يحق لهم تطبيقه على النحو الذي يرونه مناسبًا، ولهذا يبنون واقعًا منفصلًا، وربما يرغبون في حكومة ظل تحاصر الحكومة الشرعية وتقوِّضها، وقد رأينا ذلك عمليًا الأربعاء الماضي.

• خبير متخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية