قراءة في كتاب "عائد إلى غزة"

بي دي ان |

02 نوفمبر 2022 الساعة 01:58ص

في قراءتي لهذا الكتاب (عائد إلى غزة) لم أشعر بأنَّ هدف الكاتب فنيٌ بالدرجة الأولى، ففي العديد من المحطات داخل النص، يجعل الكاتب من نصه حالةً وصفية لحكاية بطل من أبطال فلسطين، ويتحول مع ذلك الحدث أو الواقعة الوصفية التاريخية إلى عناصر أخرى، تساعد الكاتبَ على تشكيل تجربته داخل العمل الإبداعي وصقله من جديد، وتساعده على إعطاء تفسير آخر لهذه الحالة، وكتاب (عائد إلى غزة) رغم قيمته الأدبية يحمل قيمة تأريخية حكائية، فليس الأدب رصداً حرفياً للواقع، وإنما هو رؤية فنيه له، وإعادة إنتاجٍ لأحداثه، فقديماً قال (أرسطو) "ليست المحاكاة رواية الأمور كما وقعت فعلاً بل رواية ما يمكن أن يقع"، وفي هذا السياق نجد أنَّ (عائد إلى غزة) أقرب ما يكون إلى الحكاية من فن الرواية، فقد رأى الفيلسوف الفرنسي (ديدرو) في رواية (ريتشاردسون) تقدماً في وعي حكاية التاريخ قصّر عنه المؤرخون، ولم يختلف عنه موقف المؤرخ الانجليزي الشهير (ر.ج.كولنجورد).
ولا يغيب عنا هنا الحوار الذي دار بين رجاء نقاش ونجيب محفوظ  عن العلاقة بين الرواية وحكايا التاريخ أجاب محفوظ: الرواية عبارة عن استعراض للحياة اليومية بكلِّ مشاكلها وقضاياها، وأشخاصها، ثم إن التاريخ عبارة عن أحداث وأشخاص، وتفسير ورؤية، والرواية كذلك، وربما أن الكاتب من هذا الجانب يُجنس عمله (عائد إلى غزة) على أنَّه فنٌّ روائيٌّ، وليس على أدوات البناء الروائي.
فالرواية المعاصرة لم تعد محاكةً لأحدث الماضي ولا تقليداً للواقع، وفي قراءتي لــ (عائد إلى غزة) وجدتُ أنَّ الكاتب وظف الحدث كحالة وصفية لحكاية بطل فلسطيني من الماضي يسعى الكاتب ليُحملها دلالة سياسية داخل النص الإبداعي. بدأها الكاتب بشخص فوزي الهودلي بطل القصة وصور معاناته في الرجوع إلى وطنه وأهله بالعزيمة والإصرار فلم يتراجع رغم كل محاولات المحتل عن هدفه ولم يستسلم لتهديداتهم حيث لا سبيل إلى تحرير الوطن دون رجل حر يتحلى بالعزيمة ولا يخشى في ذلك سوى الله، ثُمَّ تبعها مباشرة بحكاية (أبو علي وأم علي) للتأكيد دور المرأة في النضال وتثبيت الرجل على عزيمته فهذه أم علي  كانت تعد للمقاتلين الشاي وتحتسي الشاي معهم وتقدم لهم الطعام وتعاونهم في حاجاتهم، وفي هذا السياق نلحظ أن الكاتب جعل أم علي تطلب من زوجها أن يشتري شقة بالعاصمة لأنبائه خشية عليهم من الانتماء للعمل النضالي وتقرر هي وزجها أن تنتمي للعمل النضالي، ويلتق الكاتب في هذا الكتاب مرة أخرى مع المرأة، وتلتقي معه في شخص زوجته زكية الصابرة على إبعاد زوجها وتربية أبنائها، ليعبر من خلال ذلك عن إيمانه العميق بأن وعي المرأة هو جزء لا يتجزأ من وعينا السياسي، ويرينا ذلك أيضاً في شخص (أم علي وزوجته زكية وأمه)، وفي هذا العمل الأدبي (عائد إلى غزة) يجسد من خلال (فوزي) جريمة الإبعاد والنَّفي التي يرتكبها الاحتلال بحق أهلنا في فلسطين، وما يعاني الفلسطيني المبعد وعائلته من أجل الاطمئنان على أهله ومعرفة أخبارهم، ورغم هذا فأنَّ هذا العمل يحمل موضوعاً لا جديد فيه، والجدة فيه هي استكمال تأمل الكفاح الوطني الفلسطيني، حيث يحكي الكاتب عن روح فلسطين المعذبة، وعن شعب بسيط يصمد حافظاً على كرامته وما تبقى له، فترصد هذه الحكاية حالة شعب مقاوم اختار رسائله للمحتل من صوده وثباته، ويصور لنا كيف الفلسطيني يدور خارج أرضه من غربة إلى غربة ومن ضياع إلى ضياع.  
فالحدث يسير  في هذه الحكاية بخط مستقيم، وعلى الرغم من أننا نرى الكاتب يسترسل في السرد، إلا أنه يخرج بسرده لأحداث القصة في محاولة لنقله الواقع التاريخي إلى واقع فني يهدف في الأساس إلى الانتصار لهذا البطل، وتعزيز أوسلو المتمثل بعودة فوزي إلى أرض الوطن منتصراً وهو يرتدي زيه العسكري.
حيث يبدأ الكاتب بسرد أحداث قصته من نقطة في الحاضر مع العودة إلى الماضي باستخدام الفلاش باك، ومن ذلك انتقاله من أحداث حرب بيروت عام 1982 إلى الماضي وذكرياته في غزة غام 1956 والتحاقه بمعسكرات التجنيد  1966 وحرب 1967 وعمل بالداخل الفلسطيني  وزواجه من ابنة خاله زكية عام 1969 وأنه رزق بمولوده البكر عام 1971 واستشهاد عاصم صديقه ورفيقه في السلاح والنضال، واستشهاد ثائر الطائر عام 1975 ودخوله السجن، ثم ينتقل إلى الحاضر في بداية كل فصل من فصول الكتاب وما يلبث إلى أن يعود إلى ذكريات الماضي كما في الفصل الثالث لحظة إبلاغه بقرار الإبعاد إلى جنوب لبنان ورحلة الإبعاد، ويعود للحاضر في الفصل الرابع على صوت انفجار لغم أرضي زرعه رجال المقاومة لعربات العدو العسكرية ليعود إلى الماضي مرة أخرى، ويستمر هكذا في فصوله العشرة برتابة سردية واحدة.
فقد قسم الكاتب عون الله أبو صفية كتابه (عائد إلى غزة) إلى عشرة فصول، ويقدمها على نحو متتابع زمنياً، لذلك لن نجد أي مفارقات سردية على مستوى البنية الزمانية، فالكاتب وقع أسيراً لنص حكائي متواتر، إذ تبدأ الحكاية بازدياد حدّة القتال في بيروت في حرب 1982 ليمهد لنا الكاتب الطريق للتعرف على شخصية فوزي بطل الحكاية الذي يعبر من خلاله إلى فضاء النص الأيديولوجي، حين يرمز بشخصية فوزي لكل فلسطيني صامد مبعد.
وعمد إلى سرد قصة صغيرة داخل القصة الأم الرئيسية، كما في حديثه عن قصة أبو علي وأم علي داخل قصة إبعاد فوزي الرئيسة وقد شاع استخدام هذا النمط أيضاً في الروايات الحديثة، ويعتمد السارد في عمله كاملاً من بدايته حتى نهايته على كونه الراوي الشامل والوحيد ووظف في ذلك الضمير الغائب لرسم ملامح أحداثه في محاولة لرسم صورة للواقع، الأمر الذي جعله يمتلك حرية الحركة والتنقل بين مختلف عوالم شخصيات القصة فلا يجعل لهذه الشخصيات أي مساحة، وليتمكن من رؤية وحجب ما يراه ويسمعه القارئ، إضافة إلى ذلك يمتلك حرية التعليق على تصرفات الشخوص وتفسير تصرفاتهم إلينا.
ونلحظ أحياناً خطاباً اجتماعياً داخل النص، يكون حضوره طيفياً إذا ما قيس بالخطاب السياسي المتواري وراء قصة نفي فوزي، ويذكر هذا الخطاب الاجتماعي لخدمة الخطاب السياسي، فتأتي الإشارة إلى هذا الواقع الاجتماعي، إشارة سريعة حين يصف الكاتب تجمع وإقبال أهل المخيم لتهنئة فوزي بعودته إلى الوطن وكأنهم يصدرون إشارة للعدو بأنَّ فوزي قد عاد وأنَّ النضال لا ينفى ولابدَّ أن يعود، وهذا المحتل لا يمتلك قهر إرادة الفلسطيني رغم كل محاولاته ويأتي بهذه الدلالة على شكل طبقات إشارية سريعة.
   فمثل هذه المواقف الاجتماعية والنفسية تجعل النص بمثابة الصّور الموقفية التي تعبئ المناطق الخالية داخل النص. والواقع الذي يثيره النص، هو واقع تخيلي تاريخي يرصد الأفق النضالي والاجتماعي السياسي لمرحلة زمنية لحكاية ثائر معين منذ (1956) حتى أوسلو عام 1994  يرصد النص هذه الفترة من التاريخ  بحس إنساني حكائي يجسد من خلاله العجز العربي عن الفعل، ويظهر هذا العجز وضعفه أمام شخص فلسطيني أعزل تحدى دولة المحتل بأكملها وقطعها ليصل إلى أهله وهو وحيد دون زاد أو سلاح.
وفي كتاب (عائد إلى غزة) أمامنا حالة سياسية يعيشها فوزي (بطل الرواية) تتناقض تماماً مع أهدافه الوطنية، فالأفق السياسي الذي يتمحور داخل هذا النص، هو أفق انهزامي تراجعي بفعل تراجع الدول العربية وتخليها عن فلسطين، والشرط النفسي الذي يحكم فوزي هو رغبته في تحرير غزة وعودته إلى أهله فقط دون اعتبارات للأهداف السياسية والوطنية، وكأنّ غزة فقط هي الوطن.
وأنهيت بالإشارة  إلى أنَّ الكاتب يستخدم في معظم نصه ألفاظاً عامية، وتوظيف الفعل (انصاع) في الكثير من المواقف غير موفق، واختتمت بتأييدي لرأي الدكتور محمد حسونة في المغالطة التي وقع بها الكاتب عندما جعل فوزي يرفض أن يأخذ الطعام والمعلبات من أبي علي وأم على لأنَّه سيأكل السحالي.