ثوب أمي بصمة تراث وهوية فلسطينية

بي دي ان |

01 يناير 2022 الساعة 09:28م

منذ سن مبكرة وأنا أركز النظر إلى أيديهن وهي تمسك بالإبرة صغيرة الحجم بحنكة ومهارة، أتابع الخيط وهو يسرع الخطى حتى ينتهي فأرى شكلاً جديدًا ما بين الغرزة الصغيرة وغرزة رجل الغراب كما يطلق عليها .
خيطاً تلو الآخر يبدأ وينتهى بألوانٍ مختلفةٍ؛ ليلقي بظلاله علي قطعة القماش التي تخفيها عنا بمجرد الانتهاء من هذا الفعل اليومي المستمر لمدة شهر أو أكثر .
وقد كانت مهمتي في بعض الأحيان تنحصر في شراء الخيوط، وفرز الألوان وتصنيف كل لون على حدا فتتحول فيها الخيوط الملونة إلى كفتي ميزان ورأس غزال وورود وأغصان وأشجار ليمون وعنب وسرو تحيط بها سنابل القمح والشعير والخردل وعرق الدالية، عرق عين الشمس، عرق الموز، عرق القرنفل، عرق البرتقال، عرق الهدهد، عرق الطاووس، عرق الحمامة وزخارف متناسقة تضاهي جمال سجادة فارسية لونها نساجو كشان أو أصفهان .
لقد نشأتُ معظم حياتي ما بين أثوابٍ وألوانٍ أراها في الأفراح والمناسبات وحتى في الأتراح. 
فلكل ثوبٍ مناسبته الخاصة التي تليق به، فثوب الأفراح ذو الألوان المبهجة والبراقة مرصعٌ بخيوطِ القصب الجميلة ومحاط بقطب السنارة على جانبيه، يختلف عن ثوب العزاء الذي كان يحتم عليه الموقف الحزين أن يكون داكن اللون أزرق او أسود، وخيوطه تميل إلى اللون البني في الأغلب وقد أعدّ لهذا الإستخدام مسبقاً.
كنت أرى عمتي (أخت أبي) عبر مراحل عمرها المختلفة ترتدي الثوب المطرز يدوياً في كل المناسبات، وكان هذا يميزها هي ومجموعة من نسوة مدينتي حتى يومنا هذا.
أما حماتي -رحمها الله- فكانت تحرص على ارتداء الثوب بحزام خصر تتقن لفه على وسطها، وبيدها إسوارة الفضة الثقيلة إضافة إلى غطاء الرأس أو ما يسمى ب "الوقاه" المرصعة بجنيهات الفضة ما كانت تطلق عليه بكلمة  "العصملي"، وهي كلمة تركية تدل بما لا يدع للشك يقين أن هذا الثوب عمره أكبر من عمر الاحتلال الذي يحاول الاستيلاء عليه وطمسه بسنوات كثيرة، ولا شيء يضاهي حرصها عليه أثناء غسله بالطريقة اليدوية بعيداً عن الغسالات بأنواعها المختلفة، وأدوات التنظيف التي ممكن أن تؤذي إلى تغيير لونه كما تقول.
أما أمي فلم اراها ترتدي أجمل من الثوب الذي طُرز بيدها هي وأخواتي اللواتي كن يتقاسمن أجزاءه فيما بينهن، والدخول في سباق لإنهائه قبل موعده المحدد، فترى كل واحدة تتباهي بجمال عرزتها والتشطيب النهائي الذي يبدو عليه جزءها لترتديه في المناسبات المختلفة خصوصًا في أفراحهن. 
حتى أختي التي كانت تسكن ليبيا ذاك الوطن البعيد كانت تحرص في كل وقتها على تطريز الأثواب هناك وإرسالها جاهزة لغزة عبر المسافات البعيدة كدليل على حرص كل امرأة فلسطينية على ممارسة هذا الدور في تناقل هذه الثقافة جيلاً بعد جيل.
كنتُ شاهدةً على الفتيات المقبلات على الزواج وهن يرسمن هويتهن الفلسطينية بتباهي وحب وفخر،  فتبدأ كل واحدة تخيط الحب والأحلام الذي يكبر بين طيات ثوب أبيض يطرز بأيديهن  باللون الأحمر الممزوج بألوان أخرى كالأخضر وغيره، وكثيراً ما تكون غرزة الثوب مشدودة ومتناسقة ومتراصة بإتقان تزيد من صفه الصبر والجلد والتحمل لتؤهل تلك الفتاة لتكون ربه بيت معمرة مستقبلاً؛ لترتديه عند زيارة الخطيب إليها لأول مرة.
أما النساء الأكبر سنًا فكان لهن طقوس مختلفة إذ يفضلن الجلوس في منتصف الحارة أمام بئر ماء أو في حوش إحداهن المحاط بالأشجار والزهور أو بالقرب من فرن الطين الذي يشتعل عصرًا، ويتناوبن ما بين ممارسة التطريز وإعداد الخبز الشهي الذي يترك رائحته الجميلة عبر قماش الثوب المختلف أنواعه ما بين الحرير والجرجيت والبفت والسيتان والقطيفه والقماش المخمل الذي يستخدم للشتاء.
يتكرر هذا المشهد يوميًا بمشاركة بعض نساء الحي اللواتي كُن يفضلن الجلوس تحت فيّ أشعه الشمس عصرًا، يتناقلن وينسجن القصص والحكايات والأخبار فيما بينهن وكأن كل غرزة على اختلاف شكلها ولونها تنسج سيلاً من قصص الوطن الفلسطيني الجميل مع ولادة الثوب إلى النور.
تستمر الحكاية ما بين شهر وأكثر لنرى بعدها تلك الأثواب في المناسبات المختلفة خصوصًا الأفراح فتردد النساء الأغاني والأهازيج الشعبية، التي تقول فيها:
 "ستي إلها ثوب وشال عالثوب مطرز غزال
جنبه ورود وسنابل من حواليها سبع جبال
يا ستي ثوبك ما احلاه تسلم ايد اللي سواه
قالت طرزته بايدي بكرمتنا البعيدة
طرزته غرزة غرزة ولبسته ليله عرسي
هذي الغرزه من يافا وهذي الغرزه من غزة".
كنتُ أتابع العمل منذ البداية حتي المخاض الذي ينتهي في بيت الحاجه الجميلة / أم محمد التي كانت تعشق الشاي الثقيل فكانت تردد في كل زيارة كنت أذهب إليها مع أمي " كباية الشاي تعادل كباية دم يا أم خالد"
ما أن تنتهي من شل الثوب حتى ترتديه أمي فتحاول زبطه بعد التشطيب النهائي وتسليمه لها مقابل مبلغ من المال .

كانت أمي تكتفي بتفصيل ثوبين أو ثلاثة كل عام ويمكن أن يكون كثرة عدد البنات اللواتي يتقن المهنة عندها هو السبب في ذلك، فالجديد يصبح  تلقائيًا هو ثوب المناسبات ولكن كل ثوب من أثوابها كان له دورٌ ووقت استخدام وكل واحد منها كان بمثابة لوحة فنية، كسجادة فارسية تزداد بهاء مع مرور الزمن وتهدى منه لغيرها من الخالات والعمات خصوصًا أنها كانت دائمًا ما تردد مقولة "ما بلبس ثيابنا إلا أعز أحبابنا".
هذا التاريخ الذي عاش معنا طويلاً وتناقلته الأجيال جيلًا بعد جيل ليس سهلاً أن ننساه أو يأتي لص ليستولي عليه بين ليلة وضحاها فالزّي الفلسطيني هو حامل للهوية الثقافية الفلسطينية وشاهد على التاريخ الفلسطيني  منذ أن لبسته جداتنا الكنعانيات، قبل الآف السنين، حتى وقتنا هذا .