العقيدة التركية تتغير

بي دي ان |

10 نوفمبر 2020 الساعة 04:21م

بعد سنوات طويلة من الاعتماد على القوة العسكرية لتأمين مصالحها، والتحرك بشكل أحادي، وتعزيز التواجد العسكري عالمياً، والذي يعد الأكبر منذ انهيار الدولة العثمانية، لم تعد سياسة مناهضة الغرب والشرق، تؤمن المصالح التركية، فقد فشلت السياسة الخارجية التركية، بعد تحول الصراع طويل الأمد في جنوب القوقاز إلى حرب مفتوحة أواخر الشهر الماضي، حين دعا أردوغان نظيره الاذربيجاني، إلى مواصلة القتال، مخالفاً أغلب  القوى الدولية التي دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، هذه العقيدة هي نفسها التي دفعت تركيا لشن ثلاث عملياتٍ عسكريةٍ في سوريا، وإرسال إمدادات ومقاتلين مرتزقة إلى ليبيا، ونشر قواتها البحرية في شرق المتوسط، لتأكيد مزاعمها بشأن حقوقها في المنطقة، وتوسيع عملياتها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني شمال العراق، وإرسال تعزيزات عسكرية إلى آخر معاقل المعارضة السورية في إدلب، والتهديد مؤخراً بشن عمليةٍ عسكريةٍ جديدةٍ في شمال سوريا لمواجهة "الجماعات المسلحة"، هذه العقيدة التي ترى أن تركيا دولة محاطة بالأعداء وتخلى عنها الحلفاء الغربيون، لذا انتهجت سياسة خارجية استباقية تقوم على أساس التدخل في شؤون الدول، واستخدام القوة العسكرية خارج حدودها، دون اعطاء أي اهتمام للدبلوماسية والتعاون التجاري والثقافي في علاقاتها مع الدول الأخرى، فكانت هذه العقيدة سبباً في فقدان حزب العدالة والتنمية الأغلبية البرلمانية لأول مرة منذ عقدٍ كامل.
فشل إذن نهج اليد الثقيلة في التعامل مع المشكلات الكردية، وتبني سياساتٍ معاديةٍ لدول العالم الخارجي، والعربي خصوصاً، أدت إلى حالة من التوتر بينها وبين الدول العربية مثل مصر والسعودية والإمارات، حيث تتباين مواقف كل منهما إزاء عدد من القضايا الإقليمية، مثل الأزمة في ليبيا ومكافحة "الإرهاب" والتنقيب عن الغاز في المتوسط، إلى جانب رعاية ودعم تركيا للإسلام السياسي في المنطقة، وسعيها إلى دور إقليمي إقليمي، مما فرض عليها بعض القيود، وذلك في سياق اختفاء النظام العالمي القديم وتشكُّل نظام جديد، إذ لا يمكن لتركيا الاعتماد فقط على تحالفاتها التقليدية لتحقيق مصلحتها الوطنية، ويجب عليها تبني نهجٍ جديدٍ في توجهاتها الخارجية حفاظاً على مصالحها الوطنية، وهذا بدا واضحاً في تصريحات صحفية لاردوغان قبل شهور ، خلال أزمة بلده مع اليونان بشأن التنقيب في شرق البحر المتوسط، حين قال "إن إجراء محادثات مع مصر أمر ممكن، وليس هناك ما يمنع ذلك".
يبدو أن هناك منعطفات جديدة في السياسة الخارجية التركية تجاه الشرق الأوسط، حيث كان هناك تصريح للمتحدث باسم الرئاسة، عن رغبة بلاده في إعادة العلاقات مع مصر، ثم عاد وزير الخارجية التركي مولود أوغلو، وأكد في مقابلة على قناة "NTV" التركية، أن الطريقة الأكثر عقلانية لعودة العلاقات التركية المصرية، تكون عبر الحوار والتعاون، وقد أقر أنه بتفويض من الرئيس أردوغان أجرى اتصالات مختلفة مع مصر في السابق، إلا أن التدخلات التركية في ليبيا أدت إلى توتر العلاقات بينهم، كما نشرت قبل ايام صحيفة أكشام مقابله له قال فيها " إنه يجب تحسين علاقات بلاده مع مصر و"إسرائيل" والسعودية بشكل يحفظ الأمن والسلام الإقليميين، معتبراً أنه لايوجد مشكلة لبلاده مع الدولة المصرية والشعب المصري الذي تربطهم به علاقات تاريخية عميقة الجذور.
ان هذه الصحوة في السياسة الخارجية التركية، التي تحتاج إلى الكثير من عناصر بناء الثقة مع دول الشرق الأوسط، وخاصة مصر والسعودية والإمارات، يمثل مقدمة نحو التخلي عن كل طروحات الاستقواء بالمتغير الدولي، وعودة إلى السياسة الواقعية، وهذا ما عبر عنه القيادي الفلسطيني محمد دحلان، على صفحته الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي، في استنتاجٍ سريعٍ منه يشي بحدوث نوع من التغير في السياسة التركية الخارجية استجد على أولوياتها؛ بل وطال جملة المبادئ التي طالما ارتكزت إليها مؤخراً، رغبة في تحقيق طموحاتٍ متجددة، وأحلام الامبراطورية العثمانية، فالمتتبع لهذه السياسة يدرك دونما عناء أنها خرجت عن طورها المعهود الذي أراده لها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال (أتاتورك) منذ عشرينيات القرن الماضي؛ حين سعى إلى التملص من ميراث عثماني تراكم عبر ما يقرب من سبعة قرون، وشرع في بناء الجمهورية التركية الوليدة آنذاك على أسس علمانية، وقلص إلى حد كبير من انغماس بلاده في التدخل بشؤون الدول الداخلية، وعلى هذا النهج الكمالي الصارم سار خلفاء أتاتورك من قادة تركيا العلمانيين فساسوها لعقود عديدة على هدى من تعليماته التي اعتبروها نصوصاً مقدسة لا تقبل التشكيك أو النقد ويتعين الالتزام بحذافيرها دون تحريف أو نقصان.
*كاتب ومحلل فلسطيني