الرغبة المتوحشة .. وتزييف الوعي

بي دي ان |

25 أكتوبر 2020 الساعة 08:39م

خرج السلطان دام الله عزه من قصره البهيح المثير، متنكرا زي رجل عادي ليطلع على أحوال الرعية، وكان بصحبته وزيره المقرب وحارس أمنه متنكران بزي رجل عادي. وأوصاهم بعدم الإتيان بأي فعل يكشف أمرهم.
قالوا له يا سلطاننا المفدى إلى أين الطريق. قال: إلى السوق مجتمع الرعية. واصلوا السير دون أن يدرك أحد أنه السلطان.
أثناء سيرهم قابلوا متسولا على قارعة الطريق، فطلب منهم حسنة، فاقترب منه السلطان المتخفي وسأله: لماذا تتسول ألا تكفيك معونة بيت المال؟ قال المتسول: وأين هي معونة بيت المال نحن لا نراها؟، سلطاننا ظالم جائر على الفقراء، ويدعي أنه يوزع المال بالتساوي بين الرعية. أخرج السلطان من جيبه صرة مال وأعطاها للمتسول، وواصل طريقه.
وصل مع مرافقيه إلى السوق وأول ما قابلهم أحد التجار جالس على باب تجارته دون زبائن، فألقى السلطان المتخفي السلام، وجلس بجانب التاجر وسأله: كيف حال البيع والشراء في السوق؟، تنهد البائع بحرقة وقال: كيف سيكون حال البيع والشراء إذا كان رجال السلطان يتحكمون في التجارة العامة وفي أسعار السلع، لقد خربوا بيتنا بعد أن أصبحوا تجارا. نظر إليه السلطان وإلى مرافقيه، وقام من مكانه وواصل سيره في السوق، وأثناء تجواله وجد الكل كاسدة تجارته، والتقى بأحد المواطنين أمام احدى دكاكين اللحمة وسأله: هل أتيت لتشتري اللحمة، وبكم سعر اللحمة. نظر إليه المواطن وقال له: من الواضح يا سيدي أنك لست من هذه البلاد، من يستطيع أن يشتري اللحمة إلا السلطان وحاشيته، الله يخرب بيتهم، نهبوا البلد وسرقوا خيراتها في كروشهم، اسعار اللحوم والدواجن مرتفعة جدا، أتيت اليوم لكي اشتري بقروش بعض الدهن من الجزار لأضعها على المرقة لوالدي المريض. 
تأثر السلطان مما سمع، وسأله ماذا تعمل؟ اعمل عاملا في مزارع أحد وزراء السلطان، فقال: ألا يعطيك ما يكفيك؟ قال المواطن: لا، يعطيني نصف الأجر، ويقول النصف الٱخر بأوامر من السلطان تذهب لبيت المال من أجل الفقراء.
أصابت الدهشة السلطان، ولكنه واصل سيره ليلتقي مع فتاة جميلة تتمايل في السوق، أوقفها السلطان وقال لها من العيب أن تتمايلي هكذا في السوق، نظرت إليه مطولا وقالت: هل تعرفني أيها السيد؟، قال: لا أعرفك. قالت إذن أعرفك بنفسي: أنا زوجة شهيد قاتل دفاعا عن السلطان ومملكته، وأم لطفلين صغيرين، ذهبت يوما لدى موظف بيت المال لأطلب معاش زوجي، فقال الموظف: موضوعك ليس عندي، إنما عند المدير العام، فذهبت عنده فساومني على شرفي بعد أن تغزل بي، فرفضت طلبه فطردني من مكتبه، فرجعت إلى الموظف باكية، وحكيت له ما طلبه المدير، فلم يستغرب أو يستنكر بل قال مشي وضعك حتى تعيشي، ومن يومها مشيت وضعي حتى اعيش وأنفق على أطفالي.
تركها السلطان المتخفي دون أن يقول كلمة، وطلب من مرافقيه العودة إلى القصر لبحث شؤون الرعية.
عاد السلطان إلى قصره، وطلب الوزراء وقادة الحرس والدرك في اجتماع عام، حينما اجتمعوا .. قال لهم حكايات الرعية التي سمعها. فقالوا بما يشبه الصوت الواحد أنهم كاذبون ومخادعون، هذه الرعية لا تستحق الخير، وسوف نثبت لعظمتكم كذب هؤلاء بمساعدة الأجهزة الدركية. فقال السلطان: معكم أربعة وعشرين ساعة لكي تأتوا لي بالحقيقة.
خرج الوزراء وقادة الأجهزة الدركية وهم في حالة الغضب الشديد خوفا على مستقبلهم، ومن فورهم بدأوا التحرك بمساعدة كبير الوزراء وكبير الأمن في معرفة الذين التقى بهم السلطان، وتم اعتقالهم جميعا وأودعوا سجن القلعة.
في اليوم التالي عاد الوزراء وقائد الدرك يسبقهم، وجعلوه ناطقا باسمهم أمام السلطان، وحين مثلوا أمام السلطان، قال قائد الدرك: يا سيدي لقد كشفنا مؤامرة كبيرة تطال حياة سلطاننا المفدى، وتسعى لبث الاشاعات في المملكة لتقويض السلم، يقودها أحد التجار الكبار في سوق المدينة، ويعاونه عدد ٱخر، أما المتسول فلم يكن متسولا بل كان أحد المكلفين بمراقبة الطريق التي يمر منها السلطان، وما الفتاة إلا بنت ليل وليست زوجة شهيد وليس لديها أطفال، بل مهمتها ضمن المؤامرة أن تستدرج  المسؤولين السذج لتجلب منهم معلومات عن تحركات السلطان، اما المواطن فقد اعترف بأنه يعمل لصالح جهة خارجية ويتلقى منها أموالا للقضاء على السلطان، وما التاجر الذي التقيت به يا سيدي إلا قائد العصابة المكلفة من تلك الدولة باغتيالك.
صرخ السلطان: أين هؤلاء المجرمين؟، قال قائد الدرك: إنهم في السجن يا مولاي. قال: انصبوا المشانق وعلقوهم ليكونوا عبرة لكل الخونة والمندسين.
فقال الوزراء بصوت واحد عاش مليكنا المفدى .. تبسم الملك وقال: تصرف مكافأة لأجهزة الدرك التي اكتشفت المؤامرة .. ثم جلس على كرسي العرش مصفقا للغواني احتفالا بكشف المؤامرة.
غزة: 25/10/2020