إنه ديننا الجميل

بي دي ان |

26 مارس 2021 الساعة 11:20م

كلما وعدت نفسي أن لا أخوض في المسائل الشائكة في ديننا أعود وأنكث ذلك الوعد, فكيف لا؟ وهو عمق تخصصي، ويوماً ما كان شغفي، وأفنيت سنوات طوال من عمري لدراسته والبحث في أعماقه وأسراره، حتى إذا وصلت إلى قناعات معينة، وحقائق صادمة، أخبرت نفسي أن تكف عن الخوض والبحث، والذهاب بعد أن كسى الشيب رأسي إلى تخصص آخر عسى أن أجد فيه نفعاً لنفسي أولاً، ولأسرتي ولمجتمعي ولوطني ثانياً.
هل قتلتني الإنسانية وأصبحت أكثر رقة وإحساساً ومسلمة كيوت (كما يطلقوه بعض المتشددين على من رحم عباده العصاة أو حتى الكفرة)، لا أعلم ... 
مات المفكر محمد شحرور، ثم تلاه رئيس المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، وأخيراً المفكرة الطبيبة الأديبة نوال السعداوي فضجت وسائل التواصل الاجتماعي بين مترحم عليهم، طالب السلام لأرواحهم، واصفاً لهم بالعظيم والمفكر و.. وبين مكفر لهم، واصفاً إياهم بالهالك والمجحوم و.. وبين هؤلاء وهؤلاء قامت الدنيا ولم تقعد.
آثرت في البداية الصمت، ونصحت آخرين بذلك، ولم أعلق على أحد باستثناء شخص نقل قول مصطفى لطفي المنفلوطي: "إن رأيت شاعراً من الشعراء أو عالماً من العلماء، أو نبيلاً في قومه، أو داعياً في أمته، قد انقسم الناس في النظر إليه وفي تقدير منزلته، انقساماً عظيماً, وانفرجت مسافة الخلف بينهم في شأنه، فافتتن بحبه قوم حتى رفعوه إلى مرتبة الملك، ودان ببغضه آخرون حتى هبطوا به إلى منزلة الشيطان، فاعلم أنه رجل عظيم"، فأحببت هذه المقولة وسكنت لها نفسي. ولكن ريثما استنكر عليَّ من كنت يوماً زميلة أو مدرسة لهم عندما نصحتهم أن يكفوا عن الخوض في هذه الأمور؛ فرأيت من واجبي أن أكتب ما يلي:
أولاً: الجنة والنار ومن يدخلهما هذا من اختصاص الله وحده، فالله لم يعطِ علمه لأحد من خلقه، والوحي انقطع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا تتألهوا على الله.
ثانياً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَعْمَلُ الْعَامِلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ تِسْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ الْعَامِلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ تِسْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بعمل أهل النار". حديث صحيح، رجاله ثقات. إذاً من الممكن أن يكون من نظن أنهم من أهل النار لمقولاتهم وأفعالهم من أهل الجنة وفق الحديث السابق, ومن كنا نظنهم من أهل الجنة والصلاح والفلاح لأقوالهم وأفعالهم من أهل النار, ولا نستطيع لا أنا ولا أنت أن نجزم من أي الفريقين هو لأن ذلك شان الله.
ثالثاً: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ". وفي رواية طاغية، والظاهر من الحديث أن الله غفر لها لأن فعلها ينم عن الرحمة والشفقة وجاء في حديث آخر: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" حديث صحيح، فلماذا أنتم أيها التكفيرين مصممون عن نفي صفة الرحمة منكم، وإظهار قسوتكم وغلظتكم وقبحكم.
رابعاً: من خلال بحثي في رسالة الدكتوراه كتبت الكلمات التالية عسى أُنصف بها فلاسفة العصور الوسطى، وتكون تلك الكلمات نجاة لي من عذاب الله، وشهادة مني لهؤلاء الفلاسفة والمفكرين: "مما سبق ترى الباحثة أنه ما من فكر جاء إلا وكان ممزوجاً بين الحق والباطل, بين المعرفة والكذب, بين الخير والشر, بين العلم والجهل, بين الإيمان والكفر, وأخذ كل شيء دون تفنيده وتفكيكه, ومعرفة الملابسات التي قيلت فيه سيكون بعيداً عن الانصاف والحق والواقع؛ فأصحاب المذاهب الوضعية رفضوا كل الغيبيات وأنكروها بلا استثناء, ورفضوا الإقرار بوجود خالق لهذا الكون, وأنه أرسل الأنبياء والرسل والكتب السماوية, وسبب كل ذلك الخزعبلات والأساطير التي امتلأت بها الكتب المقدسة عندهم, والتحريف الذي طالها, والظلم الذي مارسه رجال الكنيسة بحق العلماء والمفكرين, وكل من انتقد الكتب المقدسة, الأمر الذي جعلهم يتصفون بمعاداة كل ما هو ديني وغيبي, فدعوا إلى العلم واطلاق حرية التفكير, وعدم تقييد الأفكار, والسماح بالخوض في كل شيء مهما كان له من القدسية, فنادوا بالإيمان بالحواس وما يصدر عنها, وإلى ضرورة البحث, وإجراء التجارب, واكتشاف القوانين التي تُسيَّر الطبيعة, ونستطيع القول أنهم استطاعوا أن يحرزوا التقدم, والتفوق العلمي, والحضاري, وأن يخوضوا غمار الحجب والكون, فكانت اكتشافاتهم عظيمة, وكانت انجازاتهم أكبر, ولكنهم ريثما اصطدموا بفطرتهم البشرية وحاجتهم إلى معرفة الخالق, وأنه يجب أن تكون هناك مجموعة من القيم والمُثل التي تحكم المجتمع وتنظم علاقاته, ولأنهم يرفضون ما جاء به الكنيسة لطول عصور الظلام التي عاشوا في كنفها؛ ذهبوا يبحثون عن دين جديد يضعونه للبشرية حتى لا تتهاوى في ظلام المادة البحتة ...". 
وأنا أعتقد جازمة أننا نعيش العصور الوسطى بكل حذافيرها، فالأساطير والخرافات طالت تراثنا الإسلامي, فنحن لسنا بدعاً من البشر، ولي عنق النصوص لمآرب سياسية ومصالح حزبية وشخصية ودنيوية نراه بأم أعيننا, والفتاوى التي تصدر كل يوم أرهقتنا وأرهقت كل مفكر وباحث عن الحقيقة، نسبة الإلحاد التي تعج بها مجتمعاتنا لغياب المنهج العلمي, والتفكير السليم، وغياب القدوات و... وبعد ذلك نحاسب الناس على ما يصدر منهم فنخلدهم في النار ونشتمهم ونفسقهم على أقل تقدير، والله يقول بما معناه: "لو خلقتموهم لرحمتموهم"، فدعوا الخلق للخالق. واهتموا وأصلحوا أنفسكم يرحمني ويرحمكم الله.