"الولاعة والهاتف" شاهدا النجاة من الإبادة...

قصة الناجية حلا التي صمدت لأكثر من أربعين ساعة تحت الأنقاض (صور)

بي دي ان |

23 أكتوبر 2025 الساعة 11:06ص

صورة الناجية حلا حمادة قبل وبعد الإصابة
فجرُ الرابع من آذار/ مارس  2024، كانت المدينة غارقةً في ظلامٍ ثقيل بعد أن أنهكتها أيامٌ متواصلة من القصف وهدير الدبابات الإسرائيلية، لم يكن يُسمع سوى أصوات القذائف وهي تهبط، ونداءاتٌ متقطعة تتوسل النجاة.

في تلك الليلة التي مازالت عالقة في ذاكرتها، تروي حلا حازم حمادة، ذات الخمسة عشر ربيعاً، تفاصيل الرعب بصوتٍ مترددٍ مازال يحمل رجفة الخوف:"اجتمعنا في المنزل الذي نزحنا إليه من تل الهوى غرب مدينة غزة، كان صغيراً لا يتسع لنا جميعًا، كنا ستة: عمّتي، أبي، أمي، أختاي بسنت وزينب، وأخي فؤاد "

 وتضيف:" كان صوت الدبابات يقترب، والبيت يهتزّ من حولنا، سمعنا عبر مكبّرٍ بعيد كلمة واحدة فقط: إخلاء."

انهيار المنزل ولحظة الفقد..

وفق رواية حلا، كان والدها حازم فؤاد حمادة ( 42عامًا) يحاول طمأنة الجميع، بينما يوصيهم بالإخلاء الفوري، خرجوا من المنزل وهم يرفعون الرايات البيضاء، مساء الأحد الثالث من آذار/مارس  2024، لكن جنود الاحتلال أطلقوا النار باتجاههم.

أصيب الوالد والعمّة وزينب، فعادوا إلى الداخل على عجل، طلب منهم الأب الجلوس وسط الغرفة بعيدًا عن النوافذ والأبواب، لكن اللحظة التالية كانت هي الفاصلة في حياتهم.

"فجأة، دوّى صوتٌ هائل، تبعه صمتٌ قصير، ثم غبار كثيف غطّى المكان، وبدأت الجرافات تدكّ الجدار فوق الجدار"، تقول حلا.

خلال ثوانٍ انهارالمنزل بكامله، وأصبح السقف أرضًا، والبيت ركامًا، وجدت حلا نفسها وعائلتها مدفونين تحته، لجحيمٍ امتدّ لأكثر من أربعين ساعة.

أنفاسٌ تتقطع بين الحياة والموت..

تُكمل حلا والدموع في عينيها:"عندما انهار السقف فقدت وعيي، استيقظت على ألمٍ لا يشبه شيئًا، كانت قدماي عالقتين بين الحديد والحجارة، وذراع أبي على كتفي، لمستها، كانت باردة لكنها منحتني شعورًا بالأمان، بينما امي وأختاي وعمتي كانوا بالغرفة الأخرى  ."

وتردف:"كنت أسمع الجرافات تهدر بالخارج كوحوشٍ حديدية، تهزّ الأرض تحت أجسادنا، والغبار كان يخنق أنفاسنا.”

وتتابع بصوتٍ مبحوح: "ناديت على أبي، فأجابني: أرجوكِ سامحيني… لم أعد قادرًا، كنت أسمع أنفاسه تتقطع، ثم سكت..، وبعد ساعات، سمعت صوت أختي" بسنت" تصرخ من مكانٍ قريب :اتصلي بالدفاع المدني… مش قادرة أتنفس."

النداء الأخير..

مدّت حلا يدها تتحسس الظلام حتى وجدت هاتف والدها في جيبه، أضاءت الشاشة، فظهرت رسالة من عمّها أبو ماهر حمادة يسأل: أنتم بخير؟، حينها اتصلت به فورًا وقالت له: أهلي استشهدوا كلهم ساعدوني.. أنا عطشانه والدم حولي… إحنا تحت الردم… بابا كله دم ..تعال أنقذني قبل ما تليل الدنيا… أمانة."

فلم تكن كلمات حلا مجرد نداء استغاثة؛ بل كانت شهادةً حيةً على واحدةٍ من أبشع الجرائم التي شهدها قطاع غزة خلال حرب الإبادة الجماعية .

نورٌ من جيب الأب..

وعن سؤالها كيف استطاعت الصمود لأكثر من أربعين ساعة في ظلام الركام، ابتسمت حلا بخجل وقالت إنها "وجدت في جيب معطف والدها ولاعة صغيرة. تلك الولاعة -رغم بساطتها- كانت نافذتها الوحيدة إلى الضوء. أشعلتها مرارًا، لتبدّد بها عتمة الخوف وتطمئن أن العالم خارج الركام لم يختفِ بعد. كان لهبها الخافت يرافقها في لحظات الانتظار الطويلة، يمنحها الأمل ويهمس لها بأن النجاة قريبة"

وبدوره، قال عمّها أبو ماهر:" كنت على تواصل معها طوال الوقت حتى لا تفقد وعيها، كانت تصمت أحيانًا فنخاف أنها قد تكون رحلت، وبذات الوقت أطلب منها أن تحافظ على بطارية الهاتف حتى لا نفقد التواصل معها"

تجاوزت ساعات الخوف والاختناق الأربعين، وظل صوت حلا خارجا من تحت الركام شهادة حياة وسط صمتٍ عالميٍ ثقيل.

صدى هند: مأساة تتحول إلى إنقاذ..

ناشد عمّ حلا فرق الدفاع المدني مرات عدة لكنهم لم يتمكنوا من الوصول، فالمنطقة مصنّفة حمراء والاشتباكات لم تهدأ، فطرق الأبواب جميعها إلى أن تواصل مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر طالبًا تنسيقًا مع الجيش الإسرائيلي.

وبحسب ما أوضحته، فإنه بعد أكثر من أربعين ساعة، جاء الضوء الأخضر، كان الجلاد ذاته – جيش الاحتلال - الذي حاصرهم هو من اضطر إلى اخراج الفتاة فكانت منهكة، مغبرة، مرتجفة من التعب والخوف، مصابة بقدميها ووجهها، ترتجف وهي تُرفع بقسوة من بين الحجارة والغبار، تبحث بعينيها عن أي أثر لعائلتها.

وعند رؤية عمّها من بعيد، مرتديًا جاكيتًا يشبه جاكيت والدها، خُيّل إليها للحظة أن والدها جاء لإنقاذها، قبل أن تدرك الحقيقة: والدها رحل إلى الأبد.

أربعون يومًا أخرى من الصمت..

وتكشف حلا أن جيش الاحتلال الإسرائيلي رفض السماح بإخراج بقية أفراد العائلة، فبقيت جثامينهم عالقة تحت الركام لأربعين يومًا.

الذي أجبر الجيش على السماح بإخراج حلا، هو صدى قصة الطفلة هند رجب حمادة - قريبتها- التي وصلت تفاصيلها إلى وسائل الإعلام وأثارت ضجة دولية، كان صدى هند هو الذي أعاد الحياة إلى حلا.وفقاً لقولها

الدعم والصمود: عمّ حلا أنموذج القوة..

بعد إنقاذها، نُقلت حلا إلى المستشفى الميداني الأمريكي في خان يونس، حيث خضعت لعلاجٍ طويل من إصاباتٍ في قدميها ووجهها.

كان عمّها سندها الأقوى، يواسيها حين يثقل الحزن على قلبها ويذكّرها أن الحياة - رغم كل ما خسرته- لا تزال تستحق أن تُعاش.

حلا… وجهٌ حيّ للأمل

ورغم إصابتها، واصلت حلا الدراسة عبر التعليم الإلكتروني، متمسكة بالحياة وأحلامها، تقول: "أرى في زوجة عمّي التي فقدت كل أفراد عائلتها انعكاس معاناتي، وأتعلم منها الصبر والقوة. الألم صار دافعًا للحياة لا عبئًا عليها."

من منظور الأخصائية النفسية..

وفي هذا الجانب، توضح الأخصائية النفسية آلاء محسن أن ما مرت به حلا قد يسبب اضطراب ما بعد الصدمة، يظهر في شكل خوف وقلق واضطرابات نوم وآلام جسدية. وتشير إلى أن الدعم النفسي يجب أن يركز على استعادة ثقتها بنفسها عبر التعبير عن التجربة، والرسم، واللعب الحر، إضافة إلى أنشطة جماعية ودعم ديني يعززان الصمود والتعافي

إبادةٌ للطفولة..

لم تتوقف المأساة عند حلا وهند، بل امتدت لتطال آلاف الأطفال في غزة، فبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن أكثر من 9,500 شخص مفقود، بينهم أطفال ونساء، وسط صعوبة الوصول إليهم.

خرجت حلا من بين الغبار لا لتنجو فحسب، بل لتروي حكاية أولئك الذين لم يُتح لهم أن يصرخوا، لتكون صوتهم الصامت وصورتهم الباقية، شاهدةٌ على القصة وسط الركام