"لم أستطع توديعهم… وتركوا خلفهم صمتًا لا يُحتمل"
بين الركام والمقابر المزدحمة: حكاية أمّ غزيّة تبحث عن فرصة الوداع الأخير
بي دي ان |
29 أكتوبر 2025 الساعة 07:05م
 صورة تعبيرية
                        صورة تعبيرية 
                    غزة - خاص بي دي ان - لينه راضي
                        في ذروة حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، لم تكن المقابر تتسع للموتى، ولا الأكفان تكفي لتكفينهم، كانت الجثامين تُدفن على عجلٍ في ساحات المستشفيات وتحت أنقاض البيوت، دون وداعٍ أو جنازات، ودون حتى أسماءٍ تحفظ هوية أصحابها.
وسط هذا الوجع، تجلس السيدة تحرير راضي "41 عاماً"، على حجرٍ صغيرعند مدخل مقبرة بن مروان شرق مدينة غزة، تحدّق في الاتجاه الذي قيل لها إن ابنتيها دُفنتا فيه، لم تحضرهما إلى هنا، ولم ترَ وجهيهما للمرة الأخيرة، لكن من حضر الدفن أخبرها أنهما وُضعتا في قبرٍ جماعي، بعد أن ضاقت الأرض ولم تعد المقابر تتّسع.
بداية الفقد..
تروي الأم بصوتٍ مفعم بالحزن تفاصيل ما عاشته خلال الحرب: "في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول ٢٠٢٣، كنت نازحة أنا وبناتي دانا وشفا وابني عبد الحي دون زوجي، الذي رفض النزوح، من حيّ الدرج شرق المدينة إلى غربها، بعدما قيل إن تلك المناطق أكثر أماناً، لكن حتى هذا الأمان لم يحمِنا".
وتتابع:" كان حيّ الدرج آنذاك يشتعل بالأحزمة النارية، والتوغلات برية، والقصف الإسرائيلي المتواصل، استُهدف الحي بشكل مباشر فاستُشهد زوجي منصور ووالده وأخواه مازن وعماد، وبنتا أخته ريماس ورهف، ضمن عشرات الشهداء من سكان المنطقة".
وتكمل السيدة راضي بصوتٍ متقطع:"منذ بداية الحرب وأنا أعيش الفقد، حتى أنني عندما فقدت زوجي وعددًا من أفراد عائلته، لم أستطع دفنهم بكرامة أو فتح بيت عزاء لهم، بسبب الوضع الأمني المتدهور".
وتصف الأم لحظات الوداع الصعبة:" عندما استُهدف زوجي مباشرة، واستُشهد على الفور، نقل جثمانه إلى مجمع الشفاء الطبي، الذي كان يعاني نن اكتظاظ شديد، ونقص حاد بالأدوية والمستلزمات الطبية، وفوضى تعم المكان بسبب العدد الكبير من الضحايا والنازحين، حين أُبلغت باستشهاده، ركضت أنا وبناتي إلى المجمع لنودّعه، لكن الأطباء منعونا من رؤيته، وجدناه مكفّنًا، مغلق العينين، ودُفن على عجل في مقبرةٍ حفرت داخل المجمع، بلا نعشٍ ولا مراسم وداع، تاركًا في قلوبنا فراغًا لا يملؤه شيء".
مقابر داخل المستشفى..
ومن الجدير ذكره، أن الوضع الأمني في غزة كان شديد التعقيد، بحيث لم يكن من الممكن نقل الشهداء إلى مقابر خارجية، لذلك يتم مباشرة دفنهم في ساحات مجمع الشفاء الطبي، بما فيها المنطقة الواقعة خلف قسم غسيل الكلى، داخل قبورجماعية مؤقتة، وسط غياب تام لمراعاة الكرامة الإنسانية الكاملة.
الفقد يتجدد..
مرت الأيام ثقيلة على قلب الأم، حتى جاء يوم ١٧يناير/كانون الثاني ٢٠٢٤، يوم الفاجعة الأكبر:" ظنّت أن الفقد اكتفى، لكن الحرب لا تكتفي" تقول الأم.
ففي قصف إسرائيلي جديد استهدف شقةً داخل برجٍ سكني مقابل المكان الذي كانت تنزح فيه، استُشهدت ابنتاها شفا " ١٠ أعوام"، ودانا "١٤ عاماً ".
تسرد الأم التفاصيل بصوتٍ محبوس بالدموع:" كانت البنتان في الشقة المقابلة مع خالهما وعائلته، كانوا يتناولون الطعام مع ابنة أخي تيا راضي (23 عامًا)، التي كانت تعد خبزالصاج على النار، كانت أصواتهم تملأ المكان بالضحك والحديث... لحظات بدت كأنها هروب صغير من جحيم الحرب".
وتتابع :"في الساعة الواحدة والنصف ظهرًا، سقط صاروخ من طائرة مسيرة إسرائيلية مباشرة على الغرفة التي كانوا فيها، لم تمهل الصواريخ أجسادهن الصغيرة وقتاً للهروب ".
وتذكر أنه:"عندما دوّى الانفجار صرخت ودعوت الله أن ينجوا، أن يكونوا بخير، ركضت مسرعة إلى المكان، قالوا إنهم نقلوا إلى مجمع الشفاء، هرعت إلى هناك والرجاء يملأ قلبي، أن لا يصيبهم مكروه، لكن عندما وصلت كانت الفاجعة، وانهار كل شيء داخلي، لم أستطع تصديق أنهم استشهدوا جميعًهم على الفور، كانوا مكفنين بغطاء أبيض، باردين، صامتين، ولم أستطع توديعهم أو لمس وجوههم للمرة الأخيرة".
مقابر مختلطة بالتراب والذاكرة..
وتسترجع المشهد بعينين دامعتين:" دفنت شفا ودانا، وتيا، في مقبرة المجمع حيث يرقد منصور، لكن المكان لايتّسع ليكونوا بجانبه، كنت قد حفظت الشجرة التي كانت أمام قبورهن لتدّلني عليهن يوماً ما، رحلوا جميعًا وتركوا خلفهم صمتًا لا يُحتمل، وبيوتًا فارغة من الضحك والحياة".
قبورٌ مبعثرة..
مع بدء سريان وقف إطلاق النار في غزة، استُدعيت عائلات الشهداء إلى مجمع الشفاء، لنقل جثامين أحبتهم، لكن المشهد كان أقسى مما تخيّلوا؛ فقد بعثرت قوات الجيش الإسرائيلي القبور أثناء توغلها البري، فتداخلت الأكفان، وامتزجت الأسماء، ولم يعد أحد يعرف من يرقد تحت أي كومة تراب، كانت الأمهات يبحثن بين الأنقاض عن أثر، عن قطعة قماش، أواسم مكتوب على كرتونة ممزقة، أوعلامة وضعوها سابقاً،علّها تدلّ على من فقدن.
وعن وصف المشهد حينذاك، تقول السيدة تحرير:" عندما قرأت على الفيس بوك أنهم يدعوننا لنقل الجثامين، ذهبت صباحاً أبحث عن الشجرة التي كانت علامة لقبورهم، لكن جبروت الجيش الإسرائيلي كان أقوى، إذ بعثرالقبور، وسرق بعض الجثامين، واختلطت الرفات ، وجدت جثمان زوجي وعائلته ونقلناهم إلى مقبرة بن مروان، لكني عجزت عن نقل جثامين البنات، لأن قبرهن كان فوقه جبل من التراب، فشعرت بالراحة أجسادهن لم يتبعثر".
وتروي أن امرأةً أخرى كانت تبحث عن جثمان ابنها البكر فلن تجد سوى بقايا رفاته وثيابه الممزقة، فجمعتها في كيسٍ أبيض لتدفنه وقد ارتسمت على وجهها ملامح الارتياح لأنها ستدفنه بكرامة.
كما أنه كان رجلاً يبكي أمام صفٍ من القبور، قال أنه دفن أطفاله وعائلته فيها، لكنه لم يجد إلا أجزاء منهم، هذا الموقف جعلها قوية وصامدة أمام فقدها.
وأكثر ما أوجع السيدة راضي، أنها شاهدت امرأة كانت تركض بين بقايا الرفات والتراب، تمسك بقايا يد طفلتها، وتفتش عن الأجزاء الأخرى من جسد الطفلة، هذا المشهد وحده كان كافيًا ليختصر حجم الألم بداخلها، حيث أنها كانت تنادي باسم طفلتها بصوت مبحوح، كأنها تُعيدها إلى الحياة من تحت الركام، فكل حجر تزيحه بيديها المرتجفتين كان أملاً ضئيلاً في أن تجد شيئًا من رفاتها، الناس من حولها كانوا يحاولون تهدئتها، لكن لا صوت كان يعلو على صراخها، ولا عقل يستطيع أن يستوعب أن الأطفال في غزة يُقتلون مرتين.
أخيراً .. وداع متأخر
بعد أشهر، استطاعت بلدية غزة إزالة الركام عن قبرابنتيها، وتمكن أفراد من عائلتها نقلهما إلى مقبرة بن مروان ، لكن الأم لم تتمكن من حضور مراسم الوداع أيضاً بسبب تدهورالوضع الأمني.
حفّارو الوجع: يدٌ تبحث عن الكرامة في التراب..
يقول عثمان نبهان، أحد متطوعي طواقم الدفاع المدني:" كنا نحفر بأيدينا لنخرج رفات الأجساد، إذ أنه كان يُدفن في كل قبر ثلاث وأربع جثث بشكل جماعي، لم يكن في غزة مكان للدفن، فكل كل أرض كانت تتحول لمقبرة".
ويضيف :" كانت بعض العائلات تكتب أسماء أبنائها على ورق أبيض، أو كرتون ممزق، أو على الجدران، وآخزون حددوا القبوربالحجارة وأغصان النباتات، على أمل العودة يوماً لنقلهم إلى قبور تليق بهم".
وبحسب آخر تقرير صادر عن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة بتاريخ 20 أكتوبر 2025، فقد بلغ عدد الشهداء نتيجة العدوان الإسرائيلي على القطاع 68,216 شهيدًا، فيما وصل عدد المصابين إلى 170,361 إصابة منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023.
جرح جماعي لا يندمل..
يقول الباحث الاجتماعي، محمد ناهض زقوت:" الأزمة لم تعد فقط في أعداد القبور، بل في ما تمثله من جرحٍ جماعي، تكدّس المقابرهو انعكاس لواقعٍ إنساني ونفسي مرير. لكنه أيضًا شاهد على صمود الناس، وتمسكهم بحقهم في الوداع، حتى في أقسى الظروف ".
مبادرات تحفظ الكرامة والهوية..
تحاول منظمات محلية، مثل جمعية الإغاثة والرحمة، بتوفير أكفان وأماكن مؤقتة للدفن، للحفاظ على كرامة الموتى، فيما تعمل مبادرات شبابية على توثّيق أسماء الشهداء عبر قواعد بيانات رقمية، لتخليد ذكراهم وحماية هويتهم من النسيان.
الفقد يولد منه الصمود..
ورغم أن المقابر امتلأت، والسماء لم تعد تعرف سوى لون الدخان، ما زال في غزة أمهاتٌ مثل تحرير يحملن صور أحبتِهن ويمشين بين الركام، يبحثن عن بقايا الوداع في أرضٍ أصبحت كلّها قبورًا.
لكن بين التراب المبعثر، تنبت إرادة لا تُدفن، وذاكرة لا تُمحى، لتقول للعالم إن في غزة، حتى الموت له كرامة، وحتى الفقد يولد منه الصمود
                                            وسط هذا الوجع، تجلس السيدة تحرير راضي "41 عاماً"، على حجرٍ صغيرعند مدخل مقبرة بن مروان شرق مدينة غزة، تحدّق في الاتجاه الذي قيل لها إن ابنتيها دُفنتا فيه، لم تحضرهما إلى هنا، ولم ترَ وجهيهما للمرة الأخيرة، لكن من حضر الدفن أخبرها أنهما وُضعتا في قبرٍ جماعي، بعد أن ضاقت الأرض ولم تعد المقابر تتّسع.
بداية الفقد..
تروي الأم بصوتٍ مفعم بالحزن تفاصيل ما عاشته خلال الحرب: "في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول ٢٠٢٣، كنت نازحة أنا وبناتي دانا وشفا وابني عبد الحي دون زوجي، الذي رفض النزوح، من حيّ الدرج شرق المدينة إلى غربها، بعدما قيل إن تلك المناطق أكثر أماناً، لكن حتى هذا الأمان لم يحمِنا".
وتتابع:" كان حيّ الدرج آنذاك يشتعل بالأحزمة النارية، والتوغلات برية، والقصف الإسرائيلي المتواصل، استُهدف الحي بشكل مباشر فاستُشهد زوجي منصور ووالده وأخواه مازن وعماد، وبنتا أخته ريماس ورهف، ضمن عشرات الشهداء من سكان المنطقة".
وتكمل السيدة راضي بصوتٍ متقطع:"منذ بداية الحرب وأنا أعيش الفقد، حتى أنني عندما فقدت زوجي وعددًا من أفراد عائلته، لم أستطع دفنهم بكرامة أو فتح بيت عزاء لهم، بسبب الوضع الأمني المتدهور".
وتصف الأم لحظات الوداع الصعبة:" عندما استُهدف زوجي مباشرة، واستُشهد على الفور، نقل جثمانه إلى مجمع الشفاء الطبي، الذي كان يعاني نن اكتظاظ شديد، ونقص حاد بالأدوية والمستلزمات الطبية، وفوضى تعم المكان بسبب العدد الكبير من الضحايا والنازحين، حين أُبلغت باستشهاده، ركضت أنا وبناتي إلى المجمع لنودّعه، لكن الأطباء منعونا من رؤيته، وجدناه مكفّنًا، مغلق العينين، ودُفن على عجل في مقبرةٍ حفرت داخل المجمع، بلا نعشٍ ولا مراسم وداع، تاركًا في قلوبنا فراغًا لا يملؤه شيء".
مقابر داخل المستشفى..
ومن الجدير ذكره، أن الوضع الأمني في غزة كان شديد التعقيد، بحيث لم يكن من الممكن نقل الشهداء إلى مقابر خارجية، لذلك يتم مباشرة دفنهم في ساحات مجمع الشفاء الطبي، بما فيها المنطقة الواقعة خلف قسم غسيل الكلى، داخل قبورجماعية مؤقتة، وسط غياب تام لمراعاة الكرامة الإنسانية الكاملة.
الفقد يتجدد..
مرت الأيام ثقيلة على قلب الأم، حتى جاء يوم ١٧يناير/كانون الثاني ٢٠٢٤، يوم الفاجعة الأكبر:" ظنّت أن الفقد اكتفى، لكن الحرب لا تكتفي" تقول الأم.
ففي قصف إسرائيلي جديد استهدف شقةً داخل برجٍ سكني مقابل المكان الذي كانت تنزح فيه، استُشهدت ابنتاها شفا " ١٠ أعوام"، ودانا "١٤ عاماً ".
تسرد الأم التفاصيل بصوتٍ محبوس بالدموع:" كانت البنتان في الشقة المقابلة مع خالهما وعائلته، كانوا يتناولون الطعام مع ابنة أخي تيا راضي (23 عامًا)، التي كانت تعد خبزالصاج على النار، كانت أصواتهم تملأ المكان بالضحك والحديث... لحظات بدت كأنها هروب صغير من جحيم الحرب".
وتتابع :"في الساعة الواحدة والنصف ظهرًا، سقط صاروخ من طائرة مسيرة إسرائيلية مباشرة على الغرفة التي كانوا فيها، لم تمهل الصواريخ أجسادهن الصغيرة وقتاً للهروب ".
وتذكر أنه:"عندما دوّى الانفجار صرخت ودعوت الله أن ينجوا، أن يكونوا بخير، ركضت مسرعة إلى المكان، قالوا إنهم نقلوا إلى مجمع الشفاء، هرعت إلى هناك والرجاء يملأ قلبي، أن لا يصيبهم مكروه، لكن عندما وصلت كانت الفاجعة، وانهار كل شيء داخلي، لم أستطع تصديق أنهم استشهدوا جميعًهم على الفور، كانوا مكفنين بغطاء أبيض، باردين، صامتين، ولم أستطع توديعهم أو لمس وجوههم للمرة الأخيرة".
مقابر مختلطة بالتراب والذاكرة..
وتسترجع المشهد بعينين دامعتين:" دفنت شفا ودانا، وتيا، في مقبرة المجمع حيث يرقد منصور، لكن المكان لايتّسع ليكونوا بجانبه، كنت قد حفظت الشجرة التي كانت أمام قبورهن لتدّلني عليهن يوماً ما، رحلوا جميعًا وتركوا خلفهم صمتًا لا يُحتمل، وبيوتًا فارغة من الضحك والحياة".
قبورٌ مبعثرة..
مع بدء سريان وقف إطلاق النار في غزة، استُدعيت عائلات الشهداء إلى مجمع الشفاء، لنقل جثامين أحبتهم، لكن المشهد كان أقسى مما تخيّلوا؛ فقد بعثرت قوات الجيش الإسرائيلي القبور أثناء توغلها البري، فتداخلت الأكفان، وامتزجت الأسماء، ولم يعد أحد يعرف من يرقد تحت أي كومة تراب، كانت الأمهات يبحثن بين الأنقاض عن أثر، عن قطعة قماش، أواسم مكتوب على كرتونة ممزقة، أوعلامة وضعوها سابقاً،علّها تدلّ على من فقدن.
وعن وصف المشهد حينذاك، تقول السيدة تحرير:" عندما قرأت على الفيس بوك أنهم يدعوننا لنقل الجثامين، ذهبت صباحاً أبحث عن الشجرة التي كانت علامة لقبورهم، لكن جبروت الجيش الإسرائيلي كان أقوى، إذ بعثرالقبور، وسرق بعض الجثامين، واختلطت الرفات ، وجدت جثمان زوجي وعائلته ونقلناهم إلى مقبرة بن مروان، لكني عجزت عن نقل جثامين البنات، لأن قبرهن كان فوقه جبل من التراب، فشعرت بالراحة أجسادهن لم يتبعثر".
وتروي أن امرأةً أخرى كانت تبحث عن جثمان ابنها البكر فلن تجد سوى بقايا رفاته وثيابه الممزقة، فجمعتها في كيسٍ أبيض لتدفنه وقد ارتسمت على وجهها ملامح الارتياح لأنها ستدفنه بكرامة.
كما أنه كان رجلاً يبكي أمام صفٍ من القبور، قال أنه دفن أطفاله وعائلته فيها، لكنه لم يجد إلا أجزاء منهم، هذا الموقف جعلها قوية وصامدة أمام فقدها.
وأكثر ما أوجع السيدة راضي، أنها شاهدت امرأة كانت تركض بين بقايا الرفات والتراب، تمسك بقايا يد طفلتها، وتفتش عن الأجزاء الأخرى من جسد الطفلة، هذا المشهد وحده كان كافيًا ليختصر حجم الألم بداخلها، حيث أنها كانت تنادي باسم طفلتها بصوت مبحوح، كأنها تُعيدها إلى الحياة من تحت الركام، فكل حجر تزيحه بيديها المرتجفتين كان أملاً ضئيلاً في أن تجد شيئًا من رفاتها، الناس من حولها كانوا يحاولون تهدئتها، لكن لا صوت كان يعلو على صراخها، ولا عقل يستطيع أن يستوعب أن الأطفال في غزة يُقتلون مرتين.
أخيراً .. وداع متأخر
بعد أشهر، استطاعت بلدية غزة إزالة الركام عن قبرابنتيها، وتمكن أفراد من عائلتها نقلهما إلى مقبرة بن مروان ، لكن الأم لم تتمكن من حضور مراسم الوداع أيضاً بسبب تدهورالوضع الأمني.
حفّارو الوجع: يدٌ تبحث عن الكرامة في التراب..
يقول عثمان نبهان، أحد متطوعي طواقم الدفاع المدني:" كنا نحفر بأيدينا لنخرج رفات الأجساد، إذ أنه كان يُدفن في كل قبر ثلاث وأربع جثث بشكل جماعي، لم يكن في غزة مكان للدفن، فكل كل أرض كانت تتحول لمقبرة".
ويضيف :" كانت بعض العائلات تكتب أسماء أبنائها على ورق أبيض، أو كرتون ممزق، أو على الجدران، وآخزون حددوا القبوربالحجارة وأغصان النباتات، على أمل العودة يوماً لنقلهم إلى قبور تليق بهم".
وبحسب آخر تقرير صادر عن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة بتاريخ 20 أكتوبر 2025، فقد بلغ عدد الشهداء نتيجة العدوان الإسرائيلي على القطاع 68,216 شهيدًا، فيما وصل عدد المصابين إلى 170,361 إصابة منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023.
جرح جماعي لا يندمل..
يقول الباحث الاجتماعي، محمد ناهض زقوت:" الأزمة لم تعد فقط في أعداد القبور، بل في ما تمثله من جرحٍ جماعي، تكدّس المقابرهو انعكاس لواقعٍ إنساني ونفسي مرير. لكنه أيضًا شاهد على صمود الناس، وتمسكهم بحقهم في الوداع، حتى في أقسى الظروف ".
مبادرات تحفظ الكرامة والهوية..
تحاول منظمات محلية، مثل جمعية الإغاثة والرحمة، بتوفير أكفان وأماكن مؤقتة للدفن، للحفاظ على كرامة الموتى، فيما تعمل مبادرات شبابية على توثّيق أسماء الشهداء عبر قواعد بيانات رقمية، لتخليد ذكراهم وحماية هويتهم من النسيان.
الفقد يولد منه الصمود..
ورغم أن المقابر امتلأت، والسماء لم تعد تعرف سوى لون الدخان، ما زال في غزة أمهاتٌ مثل تحرير يحملن صور أحبتِهن ويمشين بين الركام، يبحثن عن بقايا الوداع في أرضٍ أصبحت كلّها قبورًا.
لكن بين التراب المبعثر، تنبت إرادة لا تُدفن، وذاكرة لا تُمحى، لتقول للعالم إن في غزة، حتى الموت له كرامة، وحتى الفقد يولد منه الصمود
 
                             
                             
                             
                             
                             
                             
                             
                             
                             
                            
 
                         
                         
                         
                         
                         
                         
                        