مأتم آخر زمن

بي دي ان |

12 مارس 2021 الساعة 07:04ص

في السنوات العشر الأخيرة أحدثت شبكات التواصل الإجتماعي، تغييرات جذريّة وجوهريّة على مستوى العلاقات العائلية وأخذت حيزا كبيرا في حياتنا اليومية، حيث سرقت منّا خصُوصيّتنا وسببت برودا على مستوى العلاقات الإنسانية وعلى وجه الخصوص العلاقات العائلية.

لا شك في أن هذه الوسائل المتاحة اليوم في العالم، باتت مرتع الأسرار والخبايا الخاصة. وهنا يلعَب المُستَخدم دورا محوريّا ومهمّا جدّا عند نشْر أخباره ومشارَكَتها أصدقاَئه وأحبَائه، ومن الأمُور التي تثير الدّهشة، الهوس بمواقع التواصل الاجتماعي، التي وصلت إلى درجة أنه يمكن للمرء، نشر مراسم مأتم العائلة وصورالمُتوفّى و عائلتِه والإتّجار بحزنهم ولوعتهم، وهذا في الحقيقة أمر أراه فضيعًا ولا يُغتفر أبدا.

لماذا أصبح تشْيِيع جُثمان الفقيد والحُزن عليه و كل ما تتكبّده العائلة من أهوال الفاجعة أمرٌ موثّق بالصّوت والصّورة؟

الموت وآثاره على الشخص

الموت حق ولحظة من لحظات الحياة العاديّة، التي سنمرُّ بها جميعا عاجلا أو آجلا، إلا أنه قبل هذه المرحلة من الحياة وقبل وجود وانتشار مواقع التواصل الإجتماعي في العالم بأسره، كان يعيش الإنسان في سلام عقلي ونفسي نوعا ما. وكانت مراسم  التأبين والوفاة لها قدسيّتها ورونقهَا الخاص جدا، حيث كان هناك احترام واجلال للمتوفّى وعائلتُه، ولم تكن هناك هواتف ذكية ولا وسائل تواصل اجتماعية.

في الحقيقة لا أخص بالذكر مراسيم موت الفنّانين والمشاهير، التي لا أحب أن أشاهدها لأن فيها هتك لحرمة الحزن، حيث أنه حسب اعتقادي لشعور الحزن نفسه خصُوصيّة.  إن توثيق وفاة  المشاهير  موضوع آخر ينبغي التطرق إليه في وقت لاحق، لأنها تدخل في باب التسويق والسبق الإعلامي وغيرها من الأمور الاخرى،  التي ليس لها علاقة أبدا بالجانب الإنساني.

ليس هناك في هذه الحياة  ما هو أصعب من الموت وفقدان شخص عزيز إلى الأبد، حيث يمثّل هذا الأمر تحديًا صعبًا للغاية يجهل الكثيرون كيفية التعامل معه، نظرًا لظهور العديد من المشاعر المختلطة في تلك اللحظة، التي تترافق مع الإحساس بالخسارة. في الواقع لا يوجد طريقة محدّدة للتعامل مع موت شخص عزيز، كما أنه ليس هناك طريقة صحيحة وأخرى خاطئة، فلكلّ شخصٍ ظروفُه ومشاعره وطريقَتُه في التّعبير عن لوعته، لكن لا شك في أن مشاعر الحزن، هي ما يتفق عليها جميع الأهل والأقارب والأحبة في ذلك الوقت.

الموت في زمن مواقع التواصل الإجتماعي

بدأت الحكاية عندما كنتُ بصدد تصفّح حسَابي على تطبيق فيسبوك، و اعترضتني  ذات مرّة تدوينة، لشخص ما كتَب فيها " رَحْمُولي على أمّي مازالَت كيف توفات"، إلى غاية هذه اللّحظة الأمر عادي نوعا ما، إلا أنها قد أرفقت صورة والدتها وهي على فراش الموتِ، فمُها مفتوح وعينَاها مغلَقَتان ومغطّاة بأكملها إلا رأسها قد تُرك مكْشُوفا، وهذا ما أذهلني وأذهل الجميع وأثَار دهشتهم واستغرابهم، حيث  استنكر الكثير من المستخدمين بشدة ما فعلته العضوة، في الحقيقة تأكّدت أنها صورة الأم وهي ميّتة وذلك من خلال الكم الهائل من التعليقات المقبولة وغير المقبولة، التي أغضبتني كثيرا،  كما أحزنني في ذات الوقت الكلام المشين الذي رافق صورة الوالدة المتوفّاة، علما وأن الانتقادات كانت  شديدة وقاسية للغاية.

هل أصبح اليوم تطبيق  فيسبوك  وسيلة للترحم على الميّت وطريقة للتعبير عن الحزن؟

العّينات من هذا النوع لا تحصى ولا تعد، في الحقيقة حتى أن  الزّوجات أصبحن يرثين أزواجهن، عن طريق نشر صور للمُتوفّي والترحم عليه وتأبينه بكلمات المُغازلة والإشتياق. وأنا عن نفسي أراه أمرا غير مقبول بالمرة ولا فائدة منه أيضا. وهنا لسائل أن يسأل هل أصبحنا لا نستطيع مفارقة فيسبوك حتى أثناء مراسم الموت؟

أرى في الحقيقة أنه ينبغي ألا تؤثّر التَّطوُّرات التّكنولُوجيّة والحداثة وسرعة النمو العلمي في العالم، على حياتنا اليومية وخصوصيتنا ويجب أن نمنع هذا التدفق السريع للتّكنولوجيا، الذي خرق العقود والبنود و هدم أسس ومبادئ أخلاقية انسانية مهمة في الحياة، من أن يدمر المزيد من تفاصيل حياتنا الشخصية. من المفترض أن يكون هناك حدود لكل شيء وحُدود التّكنولوجيا أنت المسْؤول عنها، أنت تستطيع منع شبكات المواقع الإجتماعية من التدخل أكثر في حياتك وهذا يمثل تحدٍّ في حد ذاته ولكنه الآن الوقت المناسب لتثْبت العكس وتتحكم أنت وتسيطر على طرق استخدامك لهذه الشبكات المتطفّلة.

الموت فاجعة محزنة تؤدي في حد ذاتها للموت، بالإضافة إلى أنها تؤثر كثيرا على أهالي الفقيد، فتَحرِمهم النوم والفرحة لسنوات طويلة والزمن هو الكفيل للملمة الجروح. لا شك في أن الكثير من الأشخاص حول العالم ماتوا من شدة الحزن ولوعة الفراق بعد أيام معدودة أو لحظات من سماع خبر الوفاة. ومن المعهود أن  الإنسان يفقد طعم الحياة وطعم الأكل والشرب بعد موت الحبيب  والقريب، لكن كيف أصبح المرء اليوم،  قادر في مثل هذه اللحظات الكئيبة والتّعيسة من أن يفتح  شبكات التواصل الاجتماعية ويشارك الناس حزنه وصور أهله في مثل هذه المراسم الخاصة وغيرها مع بقية الأصدقاء الافتراضيين….