بين الصهيونيّة الدينيّة والصهيونيّة الليبراليّة: إسرائيل إلى أين؟

بي دي ان |

06 نوفمبر 2025 الساعة 12:20ص

الكاتب
السياق الجيوسياسي المتغير: إسرائيل في فضاء العولمة السائل

لم تكن إسرائيل يومًا خارج المركز الغربي، ولا تزال تمثل ثابتًا استراتيجيًا في السياسة الأميركية؛ إلا أنّ تحوّلات العولمة العميقة أحدثت "سيولة" في الكيانات السياسية التقليدية، وأضعفت الدول الوطنية لمصلحة شبكات مصالح عقائدية ومالية متشابكة.

في هذا الفضاء الجيوسياسي الجديد الموسوم بالعصف والغليان، حيث لا حدود بين الداخلي والخارجي، لم تعد إسرائيل "كيانًا منعزلًا" بصراعاته الداخلية؛ فقد ألقت هذه المتغيرات بظلالها على هويتها الوجودية، حيث تتقاطع الضغوط الداخلية، المتمثلة في الصراع على الهوية مع تحديّات خارجية جديدة تتمثل:
1. تحوّل التحالفات: من تحالفات دولية ثابتة إلى شبكات مصالح متقلبة، حيث لم يعد الضمان الأميركي مطلقًا بل خاضعًا لحسابات مصلحية معقدة.
2. صعود فاعلين غير دوليين: مما يقوّض احتكار الدولة للقوة والسيادة، ويجعل بيئة إسرائيل الأمنية أكثر سيولة وتعقيدًا.
3. الاقتصاد العالمي المتشابك: حيث أصبح الاستثمار والابتكار رهينة للاستقرار السياسي، ما يجعل الصراع الداخلي الإسرائيلي تهديدًا اقتصاديًا.

أولًا: الصراع الوجودي على هوية الدولة

منذ قيام إسرائيل، يعيش كيانها تناقضًا تأسيسيًا بين تعريفها كـدولة يهودية وبين ادعائها بأنها ديمقراطية؛ هذا التوازن الهش الذي حافظ على استقرارها السياسي لعقود بدأ يتآكل مع صعود الصهيونية الدينية في مواجهة الصهيونية الليبرالية العلمانية.

التيار الديني القومي يرى أنّ يهودية الدولة أولوية مطلقة، وأنّ القِيَم الدينية يجب أنْ تتفوق على القيم الليبرالية العالمية، بما يعيد مركز القرار إلى المرجعية التوراتية "الهالاخاه".

أما التيار العلماني الليبرالي فيرى أنّ ديمقراطية الدولة وضمان حقوق الأقليات هي صمام الأمان لشرعية إسرائيل أمام المجتمع الدولي.

فالمعركة ليست فكرية فحسب، بل صراع على السلطة ومن يحدد طبيعة الدولة وهويتها الأخلاقية والقانونية.

ثانيًا: التعديلات القضائية وتفكيك مبدأ الفصل بين السلطات

إسرائيل بلا دستور مكتوب فلديها نظام أساس فقط، ولا مجلس تشريعي مساند -مجلس شيوخ-، وتسيطر الحكومة غالبًا على الكنيست؛ لذا شكّلت المحكمة العليا الضامن الأخير لليبرالية النظام عبر مبدأ "المعقولية" ورقابتها على القوانين.
لكن الائتلاف الحاكم بزعامة نتنياهو سعى لتقليص دور القضاء من خلال:

- إلغاء مبدأ المعقوليّة.

- السيطرة الحكوميّة على تعيين القضاة.

- تحصين قرارات الكنيست من الرقابة القضائيّة.

هذه التعديلات تمثل تحولًا من توازن السلطات إلى هيمنة السلطة التنفيذية، ما يفتح الباب أمام حُكم شبه مطلق باسم الأغلبية المنتخبة.

ثالثًا: الانقلابات الباردة، وتطهير مؤسسات الدولة

ما يجري داخل المؤسسة الأمنية والقضائيّة هو عملية تسييس ممنهجة تهدف لإخضاع مفاصل الدولة لإرادة الحكومة عبر عدة إجراءات منها:

- إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت، ورئيس الأركان ورئيس الشاباك، ورئيس مجلس الأمن القومي، والمدعية العسكرية العامة.

- محاولات استبعاد المستشارة القانونية للحكومة غالي باهاراف-ميئورا.

الهدف ليس إداريًا بحتًا، بل في إطار الصراع حول إعادة هندسة الدولة العميقة لتصبح أدواتها أكثر ولاءً للسلطة التنفيذية، وأقل استقلالية في القرار والتقدير، وتخضع لرؤية الصهيونية الدينية.

رابعًا: القوانين المثيرة للجدل كمرآة للتحوّل الأيديولوجي

1- قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين يعكس تحوّلًا من منظومة العدالة إلى منطق الانتقام، بما يناقض القِيَم الليبرالية والدولية.

2- قانون تجنيد الحريديم لا يمثل مجرد مقايضة سياسية، بل أداة ديموغرافية لحماية نمط الحياة الحريدي، إذ يُجنّب شبابه الانخراط في بيئة عسكرية قد تغيّر منظومتهم الفكرية والاجتماعية، ويضمن استمرار قوتهم الانتخابية في المستقبل.

3- تمديد الخدمة العسكرية الإلزامية على حساب الفئات العلمانية والعسكرية النظامية يعمّق الفجوة الاجتماعية ويعيد تعريف مفهوم المواطنة في إسرائيل.

خامسًا: البعد الديموغرافي والتحوّل الانتخابي

خلف الأزمة السياسية تكمن تحوّلات ديموغرافية عميقة، فالأحزاب الدينية "الحريديم والصهيونية الدينية" تتوسع بسرعة بفضل ارتفاع معدلات الولادة وبرامج التعليم الداخلي، بينما يتراجع وزن اليسار العلماني؛
هذا التحوّل السكاني يترجم إلى تحوّل انتخابي دائم، يجعل اليمين المتدين أكثر ثقة في فرض أجندته العقائدية، إذ بات يمتلك أغلبية مستقرة لا تخشى العقاب الديمقراطي في صناديق الاقتراع.

سادسًا: الدور الأميركي

الموقف الأميركي يشكّل عامل ضغط مزدوج؛ فالإدارة الجمهورية الحالية تمنح الحكومة الإسرائيلية هامشًا واسعًا، بينما كانت الإدارات الديمقراطية أكثر انتقادًا للتعديلات القضائية ولتغوّل الصهيونية الدينية.
على المدى الطويل، قد يخلق هذا التحوّل توترًا استراتيجيًا مع التيار الليبرالي في الغرب، حتى لو ظلّ الدعم العسكري والسياسي قائمًا على المدى القصير.

سابعًا: الانعكاسات الإقليمية والفلسطينية

إنّ انزياح إسرائيل نحو نظام قومي ديني مغلق، وإضعاف القضاء، يُغلق فعليًا أي نافذة أمام حل الدولتين.
فحين تُقَدَّم يهودية الدولة على ديمقراطيتها، تصبح المساواة بين الفلسطينيين والإسرائيليين داخل الأراضي المحتلة خطرًا وجوديًا للنخبة الحاكمة.
وهكذا يتجه النظام الإسرائيلي نحو تثبيت واقع الدولة الواحدة بنظام فصل عنصري "أبارتايد" مؤسَّس، ما ينذر بتحوّلات استراتيجية تهدد استقرار المنطقة بأكملها.

وبينما يُهدد هذا التحوّل الحقوق الفلسطينية، فإنّ انعكاساته تتجاوز الحدود المحلية لتطال الأمن والاستقرار الإقليمي بأسره؛ فإسرائيل ذات الطابع القومي الديني المنغلق، والتي تتراجع فيها الضوابط القضائية والديمقراطية، تصبح أقل قدرة، وأقل رغبة في تقديم تنازلات استراتيجية لأي طرف من أطراف الصراع الإقليمي، ليس فقط تجاه الفلسطينيين، بل ربما أيضًا في أي مفاوضات مستقبلية مع سوريا أو لبنان، الأمر الذي سيؤثر سلبيًا على الاتفاقيات الابراهيمية، مما يعزز أسباب التوتر وانعدام السلام، ويفتح المجال لإطالة أمد الصراع بلا أفق واضح للحلول السياسية في المنطقة، الأمر الذي سيؤثر على الاستقرار والتوازن الدولي.

ثامنًا: السيناريوهات المستقبلية والتأثيرات الاقتصادية

يمكن قراءة ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل إسرائيل حتى عام 2030، تعتمد على توازن القوى الداخلية والتطورات الإقليمية:

1. سيناريو استعادة التوازن "معتدل ومحدود".
ائتلاف "علماني يساري" جديد يعيد استقلال القضاء ويوازن بين الدين والديمقراطية، مع إصلاحات للتجنيد والتعليم، واستعادة الثقة الدولية، رغم التحديات الديموغرافية، لكنه لن يكون كافيًا لضمان الأمن، إذ يجب أنْ يرافقه إعادة اختراع للدور الإستراتيجي الإسرائيلي في نظام عالمي لم يعد الغرب مركزه الوحيد.

2. سيناريو الهيمنة الدينية "مرتفع نسبيًا".
استمرار السيطرة اليمينية المدعومة بنمو الحريديم، مع تعزيز تطبيق القوانين الدينية، وتطهير المؤسسات، وهجرة العلمانيين، وتجميد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مع تعزيز التحالفات الإقليمية، هذا لا يُعد انتصارًا داخليًا، بل قد يعني تحوّل إسرائيل إلى "كيان منغلق" في عالم يكافئ الانفتاح والمرونة، مما يضعف موقعها في الشبكات الرأسمالية والعلمية العالمية.

3. سيناريو الانهيار الداخلي"محدود ومعتدل".
أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية قد تخلق فراغًا قابلاً لملئه من قبل فاعلين جدد في نظام عالمي "سائل" يبحث عن نقاط ثقل جديدة مما يُعمِّق فجوة الاستقرار الداخلي والإقليمي.

التأثيرات الاقتصادية:
الصراع الداخلي يهدد الاقتصاد الإسرائيلي الذي اعتمد على الابتكار والنمو السريع، في السيناريو الأول، تعود الثقة تدريجيًا مع نمو قطاع التكنولوجيا، بينما في السيناريوهين الآخرين، يؤدي الاستقطاب الاجتماعي إلى هجرة المواهب، ارتفاع التضخم، وتراجع القدرة التنافسية، مع زيادة الاعتماد على الدعم الخارجي والضغوط الجيوسياسية.


الخلاصة والاستنتاج

إسرائيل اليوم أمام مفترق حاسم: إمّا أن تُعيد التوازن بين الدين والديمقراطية وتستعيد استقلال مؤسساتها، أو أن تنزلق إلى نموذج اليهودية السياسية ذات الطابع القومي الديني.

ما يجري داخلها ليس مجرد خلاف حزبي، بل إعادة تعريف لمشروع الدولة ذاته، مما يطرح تساؤلًا جوهريًا حول قدرتها على الاستمرار كدولة حديثة، أم أنها بدأت تتجه نحو ثيوقراطية مغلقة أي حكم أيديولوجي يضع الهوية اليهودية الإثنو دينية فوق كل اعتبار مدني أو ليبرالي، وهو مسار قد يقودها، كما في نظرية مداولة الأيام، إلى دورة أفول جديدة بعد ذروة القوة.

إنّ السيناريوهات المستقبلية، من التوازن المعتدل إلى الهيمنة الدينية أو الانهيار الداخلي،  والصراع على هوية الدولة لم يعد جدلًا  أيديولوجيًا، بل تحديًا وجوديًا، قد يُخرج اسرائيل من مركز القرار الغربي، ويضعها أمام اختبار البقاء كدولة.