غزة الفلسطينية في مرحلة التحول: بين الهدم الممنهج وإعادة الإعمار وهندسة الإقليم
بي دي ان |
01 نوفمبر 2025 الساعة 02:49م
                        تستمرّ عمليات الهدم الواسعة في قطاع غزة بوتيرة غير مسبوقة، في مشهدٍ يجسّد مخططاً منظَّماً يهدف إلى إيصال الأراضي الفلسطينية المحتلة في قطاع غزة إلى ما يمكن تسميته بالقيمة الصفرية، تمهيداً لإعادة الإعمار ضمن رؤية هندسية جديدة مستلهمة من تجربة البارون "هوسمان" في إعادة تشكيل باريس خلال عهد نابليون الثالث (1853–1870)، حين أُعيد تصميم المدينة لتصبح مركزاً للنظام والحداثة بعد تدمير أحيائها القديمة التي كانت تُعدّ بؤراً للفقر والتمرد.
في هذا السياق، برزت ما يُعرف بـ "خطة الإذعان" التي أعلنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والمكوّنة من عشرين بندًا.
يتناول النصف الأول منها وقف المقتلة في غزة وملف تبادل الأسرى والجثامين، ثم الشروع في تنفيذ برامج النزع والتسريح وإعادة الدمج في الحياة المدنية والأمنية والاقتصادية. أما النصف الثاني من الخطة، فيرتبط باستكمال اتفاقات إبراهيم عبر دمج دولٍ جديدة في مسار التطبيع، ولا سيما المملكة العربية السعودية، التي تشترط وجود مسارٍ سياسيٍ واضحٍ يقود إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، انسجاماُ مع مبادرة السلام العربية التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة بيروت عام 2002، والتي تم اعتمادها رسمياً في القمم العربية المتعاقبة. وقد دعم هذا التوجّه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 19/67 لعام 2012، الذي اعترف بفلسطين دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، وتم تعزيزه في عام 2024، مع التأكيد على الحلّ العادل لقضية اللاجئين وفق القرار 194 لعام 1948، بوصفه الركيزة القانونية والإنسانية لحقّ العودة والتعويض.
أما خطة توني بلير فتقترح فرض وصايةٍ دولية على غزة من خلال “المجلس الدولي للسلام” برئاسة ترامب، وهيئاتٍ فرعية تشمل الأمانة العامة وخمس مفوضيات: الشؤون الإنسانية، إعادة الإعمار، التشريع والقانون، التنسيق مع السلطة التنفيذية الفلسطينية المحصورة مهامها في الخدمات العامة كالتعليم والصحة والبلديات، وقوة شرطية مدنية مع بقاء الأمن والإشراف الدولي بيد المفوض الأمني وهيئة التنسيق المشتركة والقرار النهائي للمجلس التنفيذي (مجلس السلام)
ويُظهر الهيكل التنظيمي ودليل المهام والواجبات من قبل بلير أن لجنة غزة ستكون شكلية من حيث الصلاحيات تقدم استشارات للمفوضيات المختلفة دون حق اتخاذ القرارات. وهذا يختلف جذرياً عن تصوّر القيادة الفلسطينية الشرعية التي تصرّ على أن تكون لجنة غزة - مهما كان مسمّاها - تابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية وتحت إشراف مجلس الوزراء، على أن يكون وزير من غزة رئيساً لها أو عضواً فيها على الأقل، لتقوم بمهام الإدارة وإعادة الإعمار بموجب الصلاحيات المخوّلة لها.
في المقابل، تقدّم خطة كوشنر-ويتكوف، المعروفة باسم صندوق إعادة بناء غزة وتسريع النمو والتحول الاقتصادي (GREAT Trust)، تصوراً متكاملاُ لتحويل غزة إلى ملاذ استثماري أمريكي صرف من خلال خطة أعادة الاعمار التي تشمل (10) عشرة مشاريع استراتيجية كبرى، أبرزها:
1. إعادة إعمار البنية التحتية بإزالة الأنقاض وبناء شبكات الكهرباء والمياه.
2. إنشاء بوابة إبراهيم في رفح كمركز لوجستي يربط المنطقة الصناعية بالميناء والمطار عبر “الطوق الغزي" الطريق الدائري.
3. إنشاء طريق دائري حول قطاع غزة بالكامل، وآخر سريع بديل لطريق صلاح الدين التاريخي.
4. إنشاء ممر البنية التحتية الإبراهيمية الذي يضم سككاً حديدية وخطوط أنابيب وأليافاً ضوئية ضمن مبادرة الطريق الهندي (قمة العشرين 2024).
5. بناء ميناء صغير لنقل المركبات والبضائع، ومطار في منطقة الدهنية لتكامل النقل الإقليمي والدولي.
6. إنشاء المركز الإقليمي للمياه ومحطات الطاقة الشمسية لتحلية المياه.
7. إقامة منطقة “إيلون ماسك” الصناعية شرق القطاع على مقربة من حدود الأراضي المحتلة عام 1948.
8. تأسيس الملاذ الأمريكي الآمن للبيانات كمراكز بيانات إقليمية تخضع للوائح أمريكية خاصة بالذكاء الاصطناعي.
9. مشروع ريفييرا ترامب، وهو سلسلة جزر اصطناعية على ساحل القطاع الذي يبلغ طوله 41 كم لإقامة منتجعات سياحية عالمية.
10. إقامة من (6) إلى (8) مدن حديثة ذكية مدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي داخل نطاق الطريق الدائري.
على أن مالك الأرض الفلسطيني في قطاع غزة مجرّد رمزٍ إلكترونيٍّ لملكيةٍ جزئيةٍ مسجّلةٍ ضمن سلسلة الكتل (البلوك تشين – Blockchain)، تُمكِّنه لاحقًا من استبدالها بوحدةٍ سكنية، كما تتيح لصندوق إعادة الإعمار استخدامها كضمانٍ ماليٍّ للاقتراض بهدف تمويل مشاريع الإعمار والجهود الإنسانية.
تجسّد الخطط الثلاث المذكورة أنفاً رؤية متكاملة لإعادة هندسة غزة سياسياً واقتصادياً وجغرافياً، لتحويلها إلى منطقة استثمارية دولية خاصة تندمج في شبكة اقتصادية إقليمية جديدة تقودها الولايات المتحدة، بما يضمن أمن الاحتلال واستقرار المصالح الغربية، مقابل مسح الذاكرة الفلسطينية وتقديم إغراءات تنموية تُقدَّم للفلسطينيين والعرب في إطار ما يُسمى بالسلام الإبراهيمي والاقتصادي. وبذلك يتبيّن أن واشنطن لا تتعامل مع غزة باعتبارها قضية وطنية فلسطينية، بل كمنصّة لإعادة ترتيب الإقليم وإعادة إنتاج خريطة شرق أوسط جديد من خلال إعادة هيكلة الاقتصاد والديموغرافيا، وإعادة تعريف مفهوم السيادة بما يخدم مصالح القوى الكبرى.
لقد أوقعتنا غزوة السابع من أكتوبر فيما يمكن تسميته فخّ نظرية عقدة الصدمة، التي أعادت تشكيل الوعي الجمعي تحت وطأة الفوضى والخوف. وعلى درب قصة الزوجة التي كانت تصرخ مطالبةً بتوسيع منزلها المكوَّن من غرفة واحدة، فأدخل الزوج الحيوانات إلى داخل غرفتها حتى ضاقت بها ذرعاً، ثم أصبحت تناضل من أجل إخراج تلك الحيوانات للتخلّص من النقنقة والعواء والرفس والنهيق، لتشعر بعدها بالراحة. وبعد أن أُخرج زوجها الحيوانات، احتفلت بالنصر المؤزَّر ونسيت مطلبها الأصلي. وهكذا يُدفَع الفلسطينيون اليوم إلى القبول بالحدّ الأدنى من حقوقهم مقابل الخلاص من الكارثة الراهنة.
غير أن السؤال الجوهري يبقى مطروحاً: هل سيتحوّل الفلسطينيون إلى مجرّد متلقّين في هذا المشروع؟ أم سيستعيدون زمام المبادرة لهندسة البيت الفلسطيني على قاعدة وحدانية التمثيل في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا في جميع أماكن تواجده؟ إن مستقبل فلسطين عموماً، وغزة على وجه الخصوص، بل الإقليم بأسره، سيتحدد بمدى قدرة الفلسطينيين على الوعي بالمخطّط الجاري، واستعادة القرار الوطني المستقل، وبناء نظام سياسي موحّد يعيد الاعتبار للمشروع الوطني، قبل أن يُعاد تشكيل الشرق الأوسط دون حضورهم الفاعل.
ملاحظة: هذا المقال خلاصة مشاركاتي في مختلف الندوات عبر منصة زووم، و منصات التواصل الاجتماعي.. سامحونا.
جمال أبوغليون
[email protected]
1 نوفمبر 2025
                    
                                        
                    
                    
                في هذا السياق، برزت ما يُعرف بـ "خطة الإذعان" التي أعلنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والمكوّنة من عشرين بندًا.
يتناول النصف الأول منها وقف المقتلة في غزة وملف تبادل الأسرى والجثامين، ثم الشروع في تنفيذ برامج النزع والتسريح وإعادة الدمج في الحياة المدنية والأمنية والاقتصادية. أما النصف الثاني من الخطة، فيرتبط باستكمال اتفاقات إبراهيم عبر دمج دولٍ جديدة في مسار التطبيع، ولا سيما المملكة العربية السعودية، التي تشترط وجود مسارٍ سياسيٍ واضحٍ يقود إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، انسجاماُ مع مبادرة السلام العربية التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة بيروت عام 2002، والتي تم اعتمادها رسمياً في القمم العربية المتعاقبة. وقد دعم هذا التوجّه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 19/67 لعام 2012، الذي اعترف بفلسطين دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، وتم تعزيزه في عام 2024، مع التأكيد على الحلّ العادل لقضية اللاجئين وفق القرار 194 لعام 1948، بوصفه الركيزة القانونية والإنسانية لحقّ العودة والتعويض.
أما خطة توني بلير فتقترح فرض وصايةٍ دولية على غزة من خلال “المجلس الدولي للسلام” برئاسة ترامب، وهيئاتٍ فرعية تشمل الأمانة العامة وخمس مفوضيات: الشؤون الإنسانية، إعادة الإعمار، التشريع والقانون، التنسيق مع السلطة التنفيذية الفلسطينية المحصورة مهامها في الخدمات العامة كالتعليم والصحة والبلديات، وقوة شرطية مدنية مع بقاء الأمن والإشراف الدولي بيد المفوض الأمني وهيئة التنسيق المشتركة والقرار النهائي للمجلس التنفيذي (مجلس السلام)
ويُظهر الهيكل التنظيمي ودليل المهام والواجبات من قبل بلير أن لجنة غزة ستكون شكلية من حيث الصلاحيات تقدم استشارات للمفوضيات المختلفة دون حق اتخاذ القرارات. وهذا يختلف جذرياً عن تصوّر القيادة الفلسطينية الشرعية التي تصرّ على أن تكون لجنة غزة - مهما كان مسمّاها - تابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية وتحت إشراف مجلس الوزراء، على أن يكون وزير من غزة رئيساً لها أو عضواً فيها على الأقل، لتقوم بمهام الإدارة وإعادة الإعمار بموجب الصلاحيات المخوّلة لها.
في المقابل، تقدّم خطة كوشنر-ويتكوف، المعروفة باسم صندوق إعادة بناء غزة وتسريع النمو والتحول الاقتصادي (GREAT Trust)، تصوراً متكاملاُ لتحويل غزة إلى ملاذ استثماري أمريكي صرف من خلال خطة أعادة الاعمار التي تشمل (10) عشرة مشاريع استراتيجية كبرى، أبرزها:
1. إعادة إعمار البنية التحتية بإزالة الأنقاض وبناء شبكات الكهرباء والمياه.
2. إنشاء بوابة إبراهيم في رفح كمركز لوجستي يربط المنطقة الصناعية بالميناء والمطار عبر “الطوق الغزي" الطريق الدائري.
3. إنشاء طريق دائري حول قطاع غزة بالكامل، وآخر سريع بديل لطريق صلاح الدين التاريخي.
4. إنشاء ممر البنية التحتية الإبراهيمية الذي يضم سككاً حديدية وخطوط أنابيب وأليافاً ضوئية ضمن مبادرة الطريق الهندي (قمة العشرين 2024).
5. بناء ميناء صغير لنقل المركبات والبضائع، ومطار في منطقة الدهنية لتكامل النقل الإقليمي والدولي.
6. إنشاء المركز الإقليمي للمياه ومحطات الطاقة الشمسية لتحلية المياه.
7. إقامة منطقة “إيلون ماسك” الصناعية شرق القطاع على مقربة من حدود الأراضي المحتلة عام 1948.
8. تأسيس الملاذ الأمريكي الآمن للبيانات كمراكز بيانات إقليمية تخضع للوائح أمريكية خاصة بالذكاء الاصطناعي.
9. مشروع ريفييرا ترامب، وهو سلسلة جزر اصطناعية على ساحل القطاع الذي يبلغ طوله 41 كم لإقامة منتجعات سياحية عالمية.
10. إقامة من (6) إلى (8) مدن حديثة ذكية مدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي داخل نطاق الطريق الدائري.
على أن مالك الأرض الفلسطيني في قطاع غزة مجرّد رمزٍ إلكترونيٍّ لملكيةٍ جزئيةٍ مسجّلةٍ ضمن سلسلة الكتل (البلوك تشين – Blockchain)، تُمكِّنه لاحقًا من استبدالها بوحدةٍ سكنية، كما تتيح لصندوق إعادة الإعمار استخدامها كضمانٍ ماليٍّ للاقتراض بهدف تمويل مشاريع الإعمار والجهود الإنسانية.
تجسّد الخطط الثلاث المذكورة أنفاً رؤية متكاملة لإعادة هندسة غزة سياسياً واقتصادياً وجغرافياً، لتحويلها إلى منطقة استثمارية دولية خاصة تندمج في شبكة اقتصادية إقليمية جديدة تقودها الولايات المتحدة، بما يضمن أمن الاحتلال واستقرار المصالح الغربية، مقابل مسح الذاكرة الفلسطينية وتقديم إغراءات تنموية تُقدَّم للفلسطينيين والعرب في إطار ما يُسمى بالسلام الإبراهيمي والاقتصادي. وبذلك يتبيّن أن واشنطن لا تتعامل مع غزة باعتبارها قضية وطنية فلسطينية، بل كمنصّة لإعادة ترتيب الإقليم وإعادة إنتاج خريطة شرق أوسط جديد من خلال إعادة هيكلة الاقتصاد والديموغرافيا، وإعادة تعريف مفهوم السيادة بما يخدم مصالح القوى الكبرى.
لقد أوقعتنا غزوة السابع من أكتوبر فيما يمكن تسميته فخّ نظرية عقدة الصدمة، التي أعادت تشكيل الوعي الجمعي تحت وطأة الفوضى والخوف. وعلى درب قصة الزوجة التي كانت تصرخ مطالبةً بتوسيع منزلها المكوَّن من غرفة واحدة، فأدخل الزوج الحيوانات إلى داخل غرفتها حتى ضاقت بها ذرعاً، ثم أصبحت تناضل من أجل إخراج تلك الحيوانات للتخلّص من النقنقة والعواء والرفس والنهيق، لتشعر بعدها بالراحة. وبعد أن أُخرج زوجها الحيوانات، احتفلت بالنصر المؤزَّر ونسيت مطلبها الأصلي. وهكذا يُدفَع الفلسطينيون اليوم إلى القبول بالحدّ الأدنى من حقوقهم مقابل الخلاص من الكارثة الراهنة.
غير أن السؤال الجوهري يبقى مطروحاً: هل سيتحوّل الفلسطينيون إلى مجرّد متلقّين في هذا المشروع؟ أم سيستعيدون زمام المبادرة لهندسة البيت الفلسطيني على قاعدة وحدانية التمثيل في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا في جميع أماكن تواجده؟ إن مستقبل فلسطين عموماً، وغزة على وجه الخصوص، بل الإقليم بأسره، سيتحدد بمدى قدرة الفلسطينيين على الوعي بالمخطّط الجاري، واستعادة القرار الوطني المستقل، وبناء نظام سياسي موحّد يعيد الاعتبار للمشروع الوطني، قبل أن يُعاد تشكيل الشرق الأوسط دون حضورهم الفاعل.
ملاحظة: هذا المقال خلاصة مشاركاتي في مختلف الندوات عبر منصة زووم، و منصات التواصل الاجتماعي.. سامحونا.
جمال أبوغليون
[email protected]
1 نوفمبر 2025