فلسطين بين صمت العالم وصرخة الإنسانية: من باريس إلى رفح

بي دي ان |

28 أغسطس 2025 الساعة 02:32م

الكاتب
في يناير 2015 حين ارتجت شوارع العاصمة الفرنسية باريس بمسيرة الوحدة، لم يكن المشهد مجرد رمزية عابرة، بل كان صرخة عالمية تقول إن حماية المدنيين ممكنة إذا توفرت الإرادة الدولية. ومع ذلك، وعلى بعد آلاف الكيلومترات، في فلسطين المحتلة، تتواصل المأساة بلا رادع دولي. الدم يسيل يومياً، والصمت يظل عنواناً رسمياً. هذا التناقض الفادح بين ضجيج التضامن في العواصم الأوروبية وصمت العالم أمام جرائم الاحتلال في فلسطين يطرح سؤالاً مؤلماً: أين الإنسانية حين تُهدد حياة ملايين الأبرياء؟
افتتح المحتشدون المسيرة آنذاك بالنشيد الوطني الفرنسي وسط تصفيق حار، فيما انضمت عائلات الضحايا الذين قتلوا على يد الشقيقين شريف وسعيد كواشي في اقتحام مكاتب صحيفة شارلي إيبدو، لتشهد على الألم الذي جرح قلوب الجميع. سبعة عشر حياة سُلبت خلال ثلاثة أيام دامية، لكنها لم تهز ضمير الإنسانية وحده؛ بل أجبرت العالم على الانتباه لتلك المأساة. شارك بالمسيرة مئات الآلاف من الفرنسيين، وعشرات من قادة العالم، إلى جانب الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، منهم ديفيد كاميرون، أنغيلا ميركل، أحمد داوود أوغلو، ماريانو راخوي، ماتيو رينزي، جان كلود يونكر، ودونالد توسك، إضافةً إلى رؤساء حكومات عدة دول أوروبية ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. كما حضر عدد من القادة العرب، للتضامن مع ضحايا الهجمات الإرهابية، وللتأكيد على أن حماية المدنيين مسؤولية عالمية.

لكن في فلسطين المحتلة، فإن الإرهاب المنظّم للاحتلال بدأ قبل أكثر من سبعة وسبعين عاماً. فمنذ النكبة عام 1948 وحتى اليوم، يتعرض شعبنا العربي الفلسطيني لنكبة ممتدة بلغت ذروتها بعد السابع من أكتوبر، مع عدوان الاحتلال الوحشي على شعبنا في الأراضي المحتلة، ولا سيما في غزة ومخيّمات شمال الضفة. لقد ارتكبت سلطات الاحتلال جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي، أودت بحياة مئات الآلاف بين شهيد وجريح وأسير ومفقود ومبتور الأطراف، غالبيتهم من الأطفال والنساء. كما دمّرت البنية التحتية بنسبة لا تقل عن 80%، وهدمت المنازل والمستشفيات والمدارس والجامعات، وفرضت حصاراً خانقاً، مستخدمةً سلاح التجويع الذي يهدد أكثر من مليوني إنسان بالموت البطيء جوعاً في قطاع غزة. وقد تحوّلت نقاط توزيع المساعدات، التي خصصتها ما يُسمى بمؤسسة غزة الإنسانية ذات الطابع الصهيو-أمريكي، إلى فخاخ ومصائد تحصد أرواح الأبرياء المنتظرين لسلال غذاء لا تسد الرمق. كما تعمّد الاحتلال اغتيال الصحفيين لمجرد قيامهم بواجبهم المهني في توثيق الحقائق كما هي، تماماً كما يفعل أي صحفي في ساحات الحروب.

أما في الضفة الغربية، بما فيها القدس، فقد وصلت جرائم الاحتلال إلى مستويات غير مسبوقة، لا سيما التهجير القسري لسكان مخيّمات شمال الضفة وهدم المنازل، بالإضافة إلى الانتهاكات المرتبطة بهندسة الاستيطان من خلال مصادرة الأراضي والزحف الاستيطاني، واعتداءات المستوطنين على سكان القرى، وقلع أشجار الزيتون وإتلاف المزروعات. يضاف إلى ذلك الانتهاكات في أماكن العبادة، خاصة المسجد الأقصى، فضلاً عن الانتهاكات المرتبطة بالتمييز العنصري وحقوق الإنسان القائم على الهيمنة والاضطهاد المنهجي. فالحياة اليومية تتطلب التنقل عبر نظام معقد من مئات حواجز التفتيش والقواعد العسكرية، وكذلك السيطرة على جميع مفاصل الحياة، من تسجيل السكان إلى الماء والكهرباء… إلخ.

هذه الجرائم المروّعة التي ارتكبتها سلطات الاحتلال حرّكت مشاعر شعوب العالم، وأصبحت سلطات الاحتلال متهمة في كل الساحات والمحافل الدولية، مما دفع العديد من الدول إلى اتخاذ مواقف غير مسبوقة؛ مثل سحب الاستثمارات، وحظر تصدير أو شراء الأسلحة التي تغذّي العدوان، وطرد السفراء أو رفض استقبالهم، ومقاطعة الشركات الداعمة للحرب. وقد شهدنا استقالات لمسؤولين من حكومات غربية احتجاجاً على الصمت المريب تجاه جرائم الاحتلال.

ورغم شدة الأزمة الإنسانية في فلسطين المحتلة، إلا أن المجتمع الدولي لم يترجم هذه المعاناة إلى تحرك موازٍ يعكس التضامن الفعلي، وبالتالي يضع العالم أمام تساؤلات جدّية حول آليات حماية المدنيين وفرض المسؤولية القانونية على مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. ولم نشهد – حتى اليوم – دعوة لمسيرة تضامن عالمية على غرار "مسيرة الوحدة" في باريس، تصل إلى الحدود الفلسطينية داخل معبر رفح، بمشاركة قادة العالم، للضغط من أجل وقف عدوان قوات الاحتلال على شعبنا الفلسطيني.

وطالما كانت – وما زالت – مصر سبّاقة في دعم القضية الفلسطينية على المستويين الشعبي والرسمي. وبعد مرور أكثر من 690 يوماً على بدء عدوان الاحتلال على قطاع غزة، فإن الأمل يظل معقوداً على فخامة رئيس جمهورية مصر العربية عبد الفتاح السيسي في الدعوة لمثل هذه المسيرة الدولية الكبرى، المدعومة بزخم شعبي بقيادته، على اعتبار أن مصر هي مركز الثقل العربي. فكما خرجت باريس بمسيرة الوحدة، فإن رفح – بوابة قطاع غزة – تستحق أن تكون منطلقاً لمسيرة إنسانية كبرى، تعلن للعالم أن فلسطين ليست وحدها، وأن الضمير العالمي لا يجوز أن يظل رهينة الكيل بمكيالين والمعايير المزدوجة، أو أداة لتغوّل الاحتلال على قرارات المنتظم الدولي.

في ختام المطاف، تبقى فلسطين، وخصوصاً قطاع غزة، مرآةً حقيقية لاختبار ضمير العالم. فبين صمت المجتمع الدولي أمام جرائم الاحتلال وصرخة الأبرياء اليومية، تتجلى ازدواجية المعايير وغياب المسؤولية القانونية. وعلى الرغم من كل هذا، يظل الأمل معقوداً على إرادة الشعوب وقوة الضمير العالمي، وعلى المبادرات الحقيقية التي تستطيع أن تتحرك لإنقاذ حياة المدنيين، وإعادة الاعتبار للعدالة الدولية. فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل قضية وطنية ودينية وأخلاقية وإنسانية، ومن واجب الإنسانية أن تسمع ندائها.
[email protected]