من الميدان إلى الشاشة: كيف شكلت التكنولوجيا والإعلام حرب غزة بعد 7 أكتوبر

بي دي ان |

26 أغسطس 2025 الساعة 03:02ص

الكاتب
شهد الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بعد أحداث 7 أكتوبر 2023 تحولًا نوعيًا في طبيعة الحرب، حيث لم تعد المعارك مقتصرة على ميادين القتال التقليدية، بل امتدت إلى العالم الرقمي ووسائل الإعلام الحديثة. أصبحت التكنولوجيا والطائرات المسيرة والذكاء الاصطناعي أدوات حاسمة في تحديد مسار العمليات، بينما تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات مواجهة موازية، حيث يتنافس الطرفان على تشكيل الروايات والتأثير في الرأي العام المحلي والدولي.
تكشف هذه الحرب الجديدة عن أبعاد متعددة للصراع، تجمع بين القوة العسكرية التقليدية، القدرات الرقمية، والحرب الإعلامية، ما يجعل فهمها أمرًا ضروريًا لفهم ديناميات القوة الحديثة في المنطقة. ومن خلال استعراض الأحداث اليومية لحرب غزة بعد 7 أكتوبر، يمكن تتبع كيفية دمج التكنولوجيا والإعلام في استراتيجيات الصراع، وتأثير ذلك على السياسات المحلية والدولية وجهود الوساطة، مما يعكس تحولًا عميقًا في مفهوم الحرب في العصر الرقمي.
    دمج الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيرة في التخطيط والتنفيذ :
أظهرت حرب غزة أن التكنولوجيا الرقمية لم تعد أداة مساعدة، بل أصبحت عنصرًا أساسيًا في العمليات العسكرية. فقد استخدمت الطائرات المسيرة وأنظمة الذكاء الاصطناعي لمراقبة تحركات الطرفين، تحليل بيانات الرصد، وتحديد المواقع الهامة لتنفيذ ضربات دقيقة. في اليوم الأول للعملية، تمكنت الطائرات الإسرائيلية من استهداف مخازن أسلحة تابعة لحركة حماس شمال غزة، بينما أطلقت الفصائل صواريخ على مستوطنات جنوب إسرائيل، ما يعكس قدرة كلا الطرفين على توظيف التكنولوجيا الرقمية لتحقيق التفوق التكتيكي في الوقت الحقيقي. هذه الأدوات الرقمية ساهمت أيضًا في تعزيز الدفاع المدني للفلسطينيين، من خلال إرسال تحذيرات مسبقة للأحياء السكنية لتجنب الخسائر البشرية، ما يظهر كيف أصبح الصراع مزيجًا معقدًا من القوة التقليدية والقدرات الرقمية، مع تأثير نفسي مباشر على الأطراف المتنازعة.
إلى جانب العامل العسكري، لعبت التكنولوجيا دورًا حاسمًا في الحرب النفسية، إذ أصبحت المنصات الرقمية مثل تويتر وفيسبوك وتيك توك ساحة مواجهة موازية. الفصائل الفلسطينية استخدمت هذه المنصات لنقل صور ومقاطع فيديو للدمار والمعاناة الإنسانية، بينما ركزت إسرائيل على إبراز فعالية منظومة القبة الحديدية واعتراضها للصواريخ، بهدف تعزيز صورة قوتها الدفاعية. في اليوم الثالث من الحرب، أثارت مقاطع الفيديو والصور الميدانية من حي الشجاعية تضامنًا دوليًا واسعًا، مع دعوات فورية من منظمات الأمم المتحدة لإطلاق ممرات إنسانية، بينما بثت إسرائيل مقاطع تظهر اعتراض الصواريخ على تل أبيب لتعزيز المصداقية الدولية لروايتها. هذا التنافس على الروايات الرقمية أعاد تعريف مفهوم السيطرة على السرد في الحروب الحديثة، وجعل الجمهور الدولي جزءًا فاعلًا في الصراع نفسه.
    سرعة المعلومة وإعادة رسم قواعد الاشتباك : 
التحول الرقمي أعاد أيضًا رسم قواعد الاشتباك، إذ أصبح كل هجوم أو تحرك ميداني قابلاً للنشر الفوري على الإنترنت، مع انعكاساته المباشرة على السياسة والدبلوماسية. سرعة انتشار المعلومات والفيديوهات والصور أجبرت المجتمع الدولي على متابعة الأحداث لحظة بلحظة، ما أدى إلى إصدار بيانات عاجلة من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، تطالب بوقف التصعيد وفتح ممرات إغاثة. في اليوم الخامس من الحرب، كانت هذه الضغوط الدولية واضحة بعد تداول مقاطع تظهر دمارًا واسعًا في مستشفيات غزة، ما ساعد في تسريع الوساطات وفتح ممرات إنسانية لدخول المساعدات.
من خلال هذه الحرب، ظهر جليًا أن التحول الرقمي لم يعد خيارًا تكتيكيًا، بل أصبح شرطًا أساسيًا للبقاء والتفوق في الصراعات الحديثة. دمج القوة الميدانية، القدرات الرقمية، والإعلام الرقمي شكل نموذجًا واضحًا للحرب الذكية في العصر الحديث، حيث يتداخل الأداء العسكري مع الحرب النفسية وإدارة الرأي العام الدولي بشكل متزامن. كما أبرزت التجربة الحاجة إلى تطوير استراتيجيات متكاملة تجمع بين الدفاع الهجومي التقليدي، التكنولوجيا الرقمية، والتحكم في السرد الإعلامي، لضمان التأثير في الساحة المحلية والدولية على حد سواء.
    التضامن الدولي ودور الحملات الرقمية
على المستوى الدولي، ساهم الإعلام الرقمي في تعزيز التضامن مع المدنيين المتضررين. حملات جمع التبرعات، ومبادرات الضغط على الحكومات والمنظمات الدولية للتدخل، ساعدت في إيصال المساعدات بشكل أسرع من الوسائل التقليدية. على سبيل المثال، انتشرت دعوات عاجلة لدعم المستشفيات ومراكز الإيواء في غزة بعد نشر فيديوهات تظهر الدمار والضحايا، ما أدى إلى استجابة سريعة من بعض المنظمات الإنسانية.
البعد الإنساني والاجتماعي للحرب الرقمية يظهر كيف يمكن للتكنولوجيا والإعلام أن يكون لهما تأثير مزدوج: من جهة، تقليل الخسائر الإنسانية عبر التحذير المبكر وإدارة الأزمات، ومن جهة أخرى، تفاقم الضغط النفسي والاجتماعي على المدنيين نتيجة سرعة تداول المعلومات وصعوبة السيطرة على السرد. بهذا، تصبح الحرب الرقمية ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل تجربة اجتماعية وإنسانية مركبة، تؤثر على حياة المدنيين يوميًا وتعيد صياغة طرق التفكير في إدارة النزاعات الإنسانية والصراعات المستقبلية

الخاتمة : 
هذا التحول في الحرب الرقمية يفتح أيضًا أفقًا جديدًا للوساطات الدولية وجهود السلام. بينما يمكن للأدوات الرقمية أن تزيد من تعقيد الصراع نتيجة لنشر المعلومات المضللة أو التصعيد الإعلامي، فهي توفر في الوقت نفسه أدوات فعالة لتعزيز التضامن الدولي، الضغط على الأطراف للتهدئة، وتقديم الدعم الإنساني بشكل أسرع وأكثر كفاءة. وبذلك، أصبح الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر نموذجًا حيًا لكيفية إعادة تعريف الحرب في العصر الرقمي، حيث القوة الميدانية والإعلامية والتكنولوجية تتشابك لتشكل صورة جديدة للصراعات في القرن الحادي

محمد جاسر أبوسياج 
ماجستير في العلوم السياسية والادارة العامة

25/8/2025