حين يُصبح الفن جبهة مقاومة… الصوت الذي لا تُسكتُه الاتفاقيات

بي دي ان |

13 يوليو 2025 الساعة 08:28م

الكاتبة
لم يكن الفن يومًا ترفًا، ولا كانت الثقافة لوحة تُعلّق على الجدران لتزيين الصمت، بل كانت دائمًا الجبهة الأجمل للمقاومة. حين تصمت المدافع، وتُخدَّر الشعوب بالصفقات والبيانات، يبقى الفنان الصادق آخر من يشعل النور. يبقى الشاعر، والرسام، والكاتب، والمغني، والممثل، هم شهود الحق حين تختلط الملامح، ويُعاد تشكيل القيم على مقاس من يدفع أكثر. ولأن الاحتلال يدرك ذلك، فإن أول ما يستهدفه في كل مشروع استعمار، ليس فقط الأرض، بل الذاكرة. يريد أن يُفرغ القصيدة من دلالتها، والأغنية من رسالتها، والسينما من واقعها، حتى تُصبح أدوات الترفيه أدوات تطبيع، وأدوات النسيان. لكن في قلب هذا التيه، يبقى هناك صوت، ولو ضعيفًا، يرفض أن يتحوّل الفن إلى ترويج، أو أن يُصبح الفنان بوقًا يجمّل القبح.

إن الصراع بين الشعوب والاحتلالات ليس فقط عسكريًا، بل هو صراع رواية، صراع من يملك الحق في أن يحكي القصة. والعدو حين يحتلّ، لا يكتفي بأن يسلبك الأرض، بل يريد أن يروي هو حكايتك، أن يُعرّفك كما يشاء، أن يُظهر نفسه كضحية، ويُقدّمك أنت كمجرم. وهنا يأتي دور الفن الحقيقي: أن يستعيد السردية. أن يقول للعالم: نحن لسنا أرقامًا. لسنا موتى بلا أسماء. لسنا مجرد عناوين في نشرة الأخبار. نحن أمّهات، وأطفال، وشهداء، ومزارعون، وعشّاق، وحالمون… نُحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلًا، لكنهم لا يدعوننا نعيشها.

حين غنّى مارسيل خليفة لفلسطين، لم تكن مجرد أغنية، بل كانت خريطة. حين رسم ناجي العلي "حنظلة"، لم يكن كاريكاتورًا، بل شاهدًا على الجريمة. حين كتبت سحر خليفة عن نساء نابلس، لم تكن رواية، بل وثيقة. حين صرخ محمود درويش: "سجّل أنا عربي"، لم يكن شعرًا، بل بيان وجود. وحين يقف فنان أو كاتب أو ممثل اليوم رافضًا دعوات التطبيع، ويعلن أن الاحتلال ليس صديقًا، بل جريمة مستمرة… فإنه لا يمارس موقفًا شخصيًا، بل ينحاز للحق في زمن أصبحت فيه الخيانة خيارًا قابلاً للتفاوض.

لكن المؤلم في هذه اللحظة العربية أننا نرى كيف يُحاصر الفن الحقيقي، ويُدفع إلى الهامش، بينما يُلمَّع المطبّعون، وتُفتح لهم الشاشات، وتُمنح لهم الجوائز، ويُصفَّق لهم لأنهم "متقدمون"، "متسامحون"، "حضاريون". وكأن المطلوب من الفنان العربي اليوم أن ينسى، أن يضحك على الوجع، أن يروّج للصورة النقية لمحتلٍ ماكر، وأن يُسكت ضميره باسم الواقعية، والاندماج، والانفتاح. لكن ما قيمة فنٍ لا يُوجع؟ ما قيمة لوحة لا تستفزك؟ ما معنى أن تُبدع بينما شعبٌ يُقتل، وتقول: أنا فنان، لا شأن لي بالسياسة؟

الحقيقة أن الحياد في الفن خيانة. لأنك إذا لم تنصر الحق، تكون قد وقفت مع الباطل ولو بصمتك. وكل فنان لا يرى الاحتلال جريمة، هو جزء من المشكلة. وكل شاعر لا تبلّله دموع المقهورين، هو ليس شاعرًا. وكل ممثل يقف أمام الكاميرا ليصوّر الإسرائيلي كإنسان "لطيف" مضطهد، بينما يُقصَف الفلسطيني كل يوم، هو شريك في تجميل الجريمة.

الفن في هذه اللحظة سلاح، لا أقل من ذلك. والأغنية موقف. واللوحة مقاومة. والسيناريو إما أن يفضح أو يُجمّل. وما نحتاجه اليوم هو جبهة ثقافية، تكتب، وتغنّي، وترسم، وتصرخ، وتُذكّر، حتى لا تُنسى القضية تحت طبقات الغبار. جبهة تعرف أن معركة الوعي لا تقل أهمية عن معركة الأرض. وأن العدو قد يحتلّ مدينة، لكنه لا يستطيع أن يحتلّ لحنًا صادقًا، أو بيت شعر حي، أو مشهد سينمائي يُخلّد ذاكرة شعبٍ لا يموت.

لذلك، فإن كل فنان يقول "لا" في زمن الـ"نعم" هو ثورة. وكل أغنية تُبكينا لأنها حقيقية، هي قنبلة. وكل كتاب يُمنع لأنه فضح الطمس، هو وثيقة حرية. وكل فتاة فلسطينية ترقص دبكة في الخراب، هي أبلغ من كل مؤتمرات العرب. وكل طفل يرسم علمه على جدار بيته المهدَّم، هو بيان مقاومة لا يُوقَّع بالحبر، بل بالدم.

ما زال هناك فن لم يُهزَم. وما زال في الأمة من يغني للحقيقة، لا للمال. ومن يؤمن أن الفن ليس وظيفة، بل رسالة. وحين تُصبح الأغنية سلاحًا، والقصيدة بندقية، والرسم خريطة، نعلم أننا لم نسقط بعد… ما دام فينا صوت يقول: لا، هذا الاحتلال لن يُجمَّل.