من الثورة إلى الوظيفة: كيف تخلّت الفصائل عن دورها؟
بي دي ان |
07 يوليو 2025 الساعة 08:48ص

في زمنٍ لا أحد فيه يتقدّم، وعزّ الصيف، الميدان يصرخ فراغاً، ينهض السؤال الكبير من تحت رماد الذاكرة الوطنية الفلسطينية: أين ذهبت الفصائل؟ ولماذا تخلّت عن أدوارها التي تأسست من أجلها؟
بينما السلطة الوطنية الفلسطينية تكافح تحت وطأة الاحتلال، والحصار المالي الجائر، وانعدام الأفق السياسي، يلتفت الفلسطينيون فلا يجدون فصائلهم التاريخية في مختلف المواقع، بل باتت تلك الفصائل مجرّد هياكل شبه وظيفية، منشغلة بمواقعها ومصالحها وصراعاتها الداخلية المبنية على الاصطفاف والشللية والاستزلام.
لكن اللافت أكثر أن هذا الغياب لم يكن نتيجة إقصاء من السلطة، ذراع منظمة التحرير الفلسطينية، ولا قمعاً منهجياً من الاحتلال، بل كان انسحاباً طوعياً، تدريجياً، بدأ منذ اللحظة التي وقّعت فيها قيادة منظمة التحرير اتفاق المبادئ أوسلو في سبتمبر 1993، واتخذ المجلس المركزي المنعقد خلال الفترة من 10 – 12 / 10 / 1993 في تونس قراراً بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة مرحلة انتقالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
السلطة الوطنية الفلسطينية، بحكم نشأتها الوظيفية، لم تكن مؤهلة لتلعب الدور التعبوي أو الجماهيري الذي كانت تؤديه مختلف الفصائل. لكنها وجدت نفسها، فجأة، الوريث الوحيد لميدان التنظيم الشعبي. لا لأنها أخذته قسراً، بل لأن الفصائل تراجعت عن دورها واختارت الجلوس في الظل، أو المشاركة في السلطة دون أن تحافظ على استقلاليتها أو طابعها الثوري.
والفصائل الثورية تحولت إلى كيانات تبحث رواتب، وتصدر بيانات، أو تعقد مؤتمرات داخل القاعات المغلقة. واختفى الكادر التنظيمي المؤهل والمتقدم من الشوارع، وصار المناضل السابق موظفاً، أو متقاعداً، أو مسؤولاً يبحث عن شرعية باتت تتآكل كل يوم. وبعضهم أصبح يُنظِّر ضد السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، في الشارع وعلى مختلف منصات التواصل الاجتماعي.
حقاً من أخطر مظاهر الأزمة أن الفصائل باتت مشلولة داخلياً، أسيرة لقيادات تاريخية متكلّسة، لم تغادر مواقعها لعقود. لا تجديد، ولا تداول للسلطة، ولا مراجعة داخلية. صار التنظيم محكوماً بشخصيات لا تسمح بالمساءلة، ولا بتعاقب الأجيال وتولّي الشباب مقاليد القيادة. وهكذا، مات الحلم على أعتاب المكاتب.
لكن المفارقة الأعمق طالت بعض فصائل اليسار الفلسطيني تحديداً. فبدل أن تتحوّل إلى طليعة المشروع الوطني، اختار كثير من كوادرها النشطة الهجرة النضالية إلى مؤسسات المجتمع المدني (NGOs)، وابتعدوا عن البنية التنظيمية الفاعلة. وبالتالي تراجعت التعبئة الثورية، وانهارت الثقة بين الجماهير والقيادة. ومع الوقت، انشغل العامة بالوظيفة والمساعدات وفيتامين واو، بدل الحلم والتحرير. والنتيجة الكارثية: نُخب جديدة ترفع شعارات الحقوق، والجندر، والتنمية، لكنها تعمل غالباً بمنطق الممول لا المناضل، وتنتج خطاباً وظيفياً منزوعاً من جذوره. هكذا، بدلاً من أن يكون اليسار طليعة الجماهير في لحظة انفصال جناحي الوطن، تحوّل إلى تيار مؤسسي ضعيف التأثير، فاقد لحضوره الشعبي، يعيش في حلقة مغلقة بين ورش العمل والبيانات الركيكة والمهترئة.
والنتيجة يا سادة؟ لا حركة حقيقية، ولا مبادرة ميدانية منظمة في وجه الاستيطان باستثناء المبادرات النخبوية. وبالتالي غابت الفصائل، ولم تجد الجماهير بديلاً حقيقياً. فتسللت قوى أخرى، بأجندات محلية وخارجية، لملء الفراغ. ما يضاعف من فداحة المشهد الفشل لم يكن قدراً .. بل خياراً، والفصائل لم تكن مضطرة إلى هذا التراجع. لعدم منعها من ممارسة دورها الجماهيري. ولم تُقصَ من الشارع. لكنها اختارت، بوعي، الانسحاب من المشهد. وفضّل بعض قادتها الصفقات على الساحات، والتحالفات على المبادئ، والبقاء في الصورة على التغيير. فحتى من لم يوقّع أوسلو، عاش تحت سقفه، وبقي في الهامش، عاجزاً عن بناء كتلة تاريخية متجددة، أو تقديم مشروع وطني جامع، قادر على تجاوز المأزق القائم.
ورغم سوداوية المشهد، إلا أن الطريق إلى تصحيح المسار ليس مستحيلاً. والمطلوب ليس عصاً سحرية، بل وقفة شجاعة ومراجعة صادقة من أجل استعادة الفصائل لوظيفتها كقوة تنظيم وضغط ثوري وتمثيل شعبي.. والانسحاب من التماهي مع الأجندات الخارجية، والعودة إلى موقع الرقابة والمساءلة.. وفتح أبوابها للشباب، وإعادة بناء حضورها الجماهيري... وإنتاج قيادة شابة متجددة، وعدم العيش على رصيد الماضي، بل صناعة مستقبل يليق بتضحيات أبنائها وقادتها العظام.
قبل أن يغادر، طرح حكيم الثورة الفلسطينية جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية سؤالاً لم يُجب عليه أحد بصدق حتى حينه: "لماذا فشلنا؟"، والإجابة اليوم أوضح من أي وقت مضى: فقد فشلنا لأننا تخلّينا عن الجماهير، ووهبنا مواقعنا للفراغ، وسكنّا الماضي دون أن نصنع مستقبل لمشروعنا الوطني، والسلطة الوطنية، نواة الدولة، لم تأخذ دور الفصائل التي تخلّت عن دورها وانسحبت من الميدان التنظيمي والاجتماعي والثقافي، علماً أن الجماهير وجدت في السلطة ملجأً وحيداً للإجابة على حاجاتها ومتطلباتها.
بينما السلطة الوطنية الفلسطينية تكافح تحت وطأة الاحتلال، والحصار المالي الجائر، وانعدام الأفق السياسي، يلتفت الفلسطينيون فلا يجدون فصائلهم التاريخية في مختلف المواقع، بل باتت تلك الفصائل مجرّد هياكل شبه وظيفية، منشغلة بمواقعها ومصالحها وصراعاتها الداخلية المبنية على الاصطفاف والشللية والاستزلام.
لكن اللافت أكثر أن هذا الغياب لم يكن نتيجة إقصاء من السلطة، ذراع منظمة التحرير الفلسطينية، ولا قمعاً منهجياً من الاحتلال، بل كان انسحاباً طوعياً، تدريجياً، بدأ منذ اللحظة التي وقّعت فيها قيادة منظمة التحرير اتفاق المبادئ أوسلو في سبتمبر 1993، واتخذ المجلس المركزي المنعقد خلال الفترة من 10 – 12 / 10 / 1993 في تونس قراراً بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة مرحلة انتقالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
السلطة الوطنية الفلسطينية، بحكم نشأتها الوظيفية، لم تكن مؤهلة لتلعب الدور التعبوي أو الجماهيري الذي كانت تؤديه مختلف الفصائل. لكنها وجدت نفسها، فجأة، الوريث الوحيد لميدان التنظيم الشعبي. لا لأنها أخذته قسراً، بل لأن الفصائل تراجعت عن دورها واختارت الجلوس في الظل، أو المشاركة في السلطة دون أن تحافظ على استقلاليتها أو طابعها الثوري.
والفصائل الثورية تحولت إلى كيانات تبحث رواتب، وتصدر بيانات، أو تعقد مؤتمرات داخل القاعات المغلقة. واختفى الكادر التنظيمي المؤهل والمتقدم من الشوارع، وصار المناضل السابق موظفاً، أو متقاعداً، أو مسؤولاً يبحث عن شرعية باتت تتآكل كل يوم. وبعضهم أصبح يُنظِّر ضد السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، في الشارع وعلى مختلف منصات التواصل الاجتماعي.
حقاً من أخطر مظاهر الأزمة أن الفصائل باتت مشلولة داخلياً، أسيرة لقيادات تاريخية متكلّسة، لم تغادر مواقعها لعقود. لا تجديد، ولا تداول للسلطة، ولا مراجعة داخلية. صار التنظيم محكوماً بشخصيات لا تسمح بالمساءلة، ولا بتعاقب الأجيال وتولّي الشباب مقاليد القيادة. وهكذا، مات الحلم على أعتاب المكاتب.
لكن المفارقة الأعمق طالت بعض فصائل اليسار الفلسطيني تحديداً. فبدل أن تتحوّل إلى طليعة المشروع الوطني، اختار كثير من كوادرها النشطة الهجرة النضالية إلى مؤسسات المجتمع المدني (NGOs)، وابتعدوا عن البنية التنظيمية الفاعلة. وبالتالي تراجعت التعبئة الثورية، وانهارت الثقة بين الجماهير والقيادة. ومع الوقت، انشغل العامة بالوظيفة والمساعدات وفيتامين واو، بدل الحلم والتحرير. والنتيجة الكارثية: نُخب جديدة ترفع شعارات الحقوق، والجندر، والتنمية، لكنها تعمل غالباً بمنطق الممول لا المناضل، وتنتج خطاباً وظيفياً منزوعاً من جذوره. هكذا، بدلاً من أن يكون اليسار طليعة الجماهير في لحظة انفصال جناحي الوطن، تحوّل إلى تيار مؤسسي ضعيف التأثير، فاقد لحضوره الشعبي، يعيش في حلقة مغلقة بين ورش العمل والبيانات الركيكة والمهترئة.
والنتيجة يا سادة؟ لا حركة حقيقية، ولا مبادرة ميدانية منظمة في وجه الاستيطان باستثناء المبادرات النخبوية. وبالتالي غابت الفصائل، ولم تجد الجماهير بديلاً حقيقياً. فتسللت قوى أخرى، بأجندات محلية وخارجية، لملء الفراغ. ما يضاعف من فداحة المشهد الفشل لم يكن قدراً .. بل خياراً، والفصائل لم تكن مضطرة إلى هذا التراجع. لعدم منعها من ممارسة دورها الجماهيري. ولم تُقصَ من الشارع. لكنها اختارت، بوعي، الانسحاب من المشهد. وفضّل بعض قادتها الصفقات على الساحات، والتحالفات على المبادئ، والبقاء في الصورة على التغيير. فحتى من لم يوقّع أوسلو، عاش تحت سقفه، وبقي في الهامش، عاجزاً عن بناء كتلة تاريخية متجددة، أو تقديم مشروع وطني جامع، قادر على تجاوز المأزق القائم.
ورغم سوداوية المشهد، إلا أن الطريق إلى تصحيح المسار ليس مستحيلاً. والمطلوب ليس عصاً سحرية، بل وقفة شجاعة ومراجعة صادقة من أجل استعادة الفصائل لوظيفتها كقوة تنظيم وضغط ثوري وتمثيل شعبي.. والانسحاب من التماهي مع الأجندات الخارجية، والعودة إلى موقع الرقابة والمساءلة.. وفتح أبوابها للشباب، وإعادة بناء حضورها الجماهيري... وإنتاج قيادة شابة متجددة، وعدم العيش على رصيد الماضي، بل صناعة مستقبل يليق بتضحيات أبنائها وقادتها العظام.
قبل أن يغادر، طرح حكيم الثورة الفلسطينية جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية سؤالاً لم يُجب عليه أحد بصدق حتى حينه: "لماذا فشلنا؟"، والإجابة اليوم أوضح من أي وقت مضى: فقد فشلنا لأننا تخلّينا عن الجماهير، ووهبنا مواقعنا للفراغ، وسكنّا الماضي دون أن نصنع مستقبل لمشروعنا الوطني، والسلطة الوطنية، نواة الدولة، لم تأخذ دور الفصائل التي تخلّت عن دورها وانسحبت من الميدان التنظيمي والاجتماعي والثقافي، علماً أن الجماهير وجدت في السلطة ملجأً وحيداً للإجابة على حاجاتها ومتطلباتها.