مدينة غزة.. عودة من الموت

بي دي ان |

26 يونيو 2025 الساعة 06:21م

الكاتب
في غزة، لا تنتهي الحكاية عند الركام، بل تبدأ منه هنا، حيث تتقاطع الحياة مع الموت في كل زاوية، لا تبحث الأرواح عن الرفاهية، بل عن النجاة. في كل حيّ، وفي كل خيمة نُصبت فوق أنقاض البيوت، تُروى قصص لا تُكتب بالحبر، بل تُسجَّل بالدموع، وتُروى بالصبر، وتُفهم بالوجع.

غزة اليوم ليست مجازًا عن الألم، بل تجسيد حيّ له. مدينة كانت تُحاصَر فصارت تُدفَن وهي حيّة. من الجنوب إلى الشمال، تتوزع الجراح كأنها خريطة طريق، تقودك من فاجعة إلى أخرى، ومن فقدان إلى نكبة، ومن نكبة إلى ما هو أفظع منها.

لكن رغم كل شيء، ثمة شيء غريب في غزة. شيء يشبه المعجزة. كلما حسبناها لفظت أنفاسها الأخيرة، عادت تتنفس. وكلما ظننا أن روحها تكسرت، عادت تمشي، تجرّ أقدامها فوق الرماد، ترفع رأسها رغم انكسار العمود الفقري. غزة تعرف كيف تعود من الموت، لأن الموت لم يغب عنها يومًا.

في هذه العودة، لا يحمل الناس أمتعتهم، بل ذكرياتهم. لا يفتشون عن مستقبل، بل عن ظلّ بيت، عن صورة معلّقة، عن صوت ضحكة سُجّل في ذاكرة جدار لم يبق منه إلا الطين. ومع ذلك، لا يزالون يؤمنون. يؤمنون أن الفجر يأتي، حتى وإن تأخر. يؤمنون أن لهذا العذاب نهاية، وأن للكرامة موعدًا.

غزة اليوم تحاول النهوض من حفرة سحيقة حُفرت بسكاكين الغدر، وأدوات الصمت الدولي، وشراكة الجغرافيا المفروضة بالقوة. لكن شعبها لا يستسلم. لم يستسلم حين جاع، ولا حين نزح، ولا حين ودّع أبناءه في الليل دون كفن.

هذا الشعب، الذي يمشي بين الألغام ويصلي في الظلام، لا يبحث عن شفقة، بل عن عدالة. لا يريد مؤتمرات ولا بيانات، بل يريد حياة تليق ببشر، وسقفًا يقيه المطر والذل. يريد أن يعود لاجئًا إلى وطنه، لا نازحًا داخله.

غزة لا تموت. لكنها تتألم حتى تُربك كل المعايير. وحتى في موتها المؤقت، تظلّ تعلم العالم معنى الكرامة، وتكتب بدمها أجمل الدروس في البقاء.

العودة من الموت ليست حدثًا عابرًا في غزة، بل روتين يومي. وكل عائد من بين الأنقاض يحمل في قلبه سؤالًا بسيطًا: متى يحيا الإنسان في هذا العالم كإنسان؟