تفكيك العالم وإعادة هيكلته

بي دي ان |

27 ديسمبر 2024 الساعة 09:56م

الكاتب
في حقب التاريخ المتعاقبة شهد العالم تحولات جيوسياسية عديدة، وانتقل من حضارة الى أخرى، ومن تشكيلة اجتماعية اقتصادية الى تشكيلة أكثر تطورا ارتباطا بتطور قوى وعلاقات الإنتاج، وتميزت كل حقبة بسماتها وخصائصها الخاصة، ورغم ان التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية البرجوازية، التي ظهرت مع نهايات القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، ومازالت حتى التاريخ المعاش، الا انها مرت بمراحل مختلفة في سياق صعودها وتطورها، فمن مرحلة المنافكتورا، مع بداية تفكك التشكيلة الاقطاعية، وصعود البرجوازية ورأس المال والعمل الحر، والانعتاق من عمل السخرة وتلاشي دور النبلاء في التسيد على المجتمعات، الى مرحلة الصناعة البخارية ونشوء الاستعمار القديم في استعباد الشعوب الضعيفة لنهب ثرواتها واستغلال كفاءاتها، فضلا عن استغلال الطبقة البرجوازية لشعوبها القومية بعد ان أقامت دولها القومية واسواقها الخاصة، ثم ولجت مرحلة الرأسمالية صعودا الى المرحلة الامبريالية وصولا لمرحلة النيو ليبرالية والعولمة المتوحشة المعاصرة، وفي كل مراحلها المتداخلة بقي قانون ومبدأ استغلال الانسان للإنسان الناظم لسياساتها ومنهج عملها الدائم، وإن اتخذ في كل محطة من محطات التطور خصائصه المتلازمة مع طبيعة الإنعطافة الكيفية الجديدة
ومع ان الثورة الاشتراكية نجحت في بداية القرن العشرين في روسيا عام 1917 بقيادة البلاشفة، وتوسع نفوذها بعد الحرب العالمية الثانية في دول اسيا الوسطى وأوروبا الشرقية والصين وكوريا الشمالية وكوبا وغيرها من دول اميركا اللاتينية، وشكلت المنظومة الاشتراكية كقطب منافس للقطب الامبريالي في الغرب، وتركت بصماتها الإيجابية في تمدد وتوسع عملية التحرر الوطني في دول العالم الثالث مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين الماضي، الا أن انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد ان باعه الثلاثي غورباتشوف ويلتسين وشيفاردنادزة  غابت شمس الاشتراكية عموما، رغم بقاء عدد من الدول متمسكة بخيار الاشتراكية بعيدا عن النموذج السوفييتي، ومنها الصين الشعبية، التي شهدت تحولات عاصفة مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، مع اشتقاقها عملية مزاوجة بين النموذجين الاشتراكي والرأسمالي، حتى امست احد أهم الأقطاب العالمية المنافسة للولايات المتحدة الأميركية. بيد ان التزام عدد من الدول النموذج الاشتراكي لا يعني استمرار وجوده كقطب، وبالتالي بات النموذج الامبريالي وعلى رأسه الولايات المتحدة عاد وامسى القطب الأساس للعالم، واحتلت اميركا الشمالية مركز الصدارة والحاكم بأمره في السياسة الدولية.
غير أن الازمة الكارثية في الولايات المتحدة الناجمة عن ازمة العقارات، وافلاس العديد من الشركات والبنوك في الربع الأخير من عام 2008 شكلت بداية تراجع وانكفاء تدريجي للقطب الأميركي الأوحد في العالم، وأخذت الأقطاب الدولية المنافسة وخاصة الصين وروسيا الاتحادية ودول البريكس تزاحم وتنافس الولايات المتحدة الأميركية، وتسعى بشكل مشترك، وكل على انفراد على إعادة تشكل المنظومة العالمية وفق منظومة جيوسياسية عالمية جديدة عنوانها عالم متعدد الأقطاب، مما ساهم في احداث انزياحات بطيئة وتدريجية في المنظومة العالمية.
لكن واشنطن مازالت لها اليد الطولى في الكرة الأرضية، وحتى الان تسيطر عموما على مقاليد الأمور العالمية، وتسعى لإضعاف الأقطاب المنافسة، وتعمل بقوة البارود والحروب الإقليمية (العالمية بالوكالة) والاقتصاد والمال والهاي تيك للحفاظ على إدامة سيطرتها على العالم، ولهذا طرح الرئيس دونالد ترامب في ولايته الأولى 2016 / 2020 شعار "اميركا أولا"، وواصلت إدارة جو بايدن الحالية ذات النهج بشكل مخفف نسبيا، واقتربت شمسها من الغروب، وسيعود صاحب الشعار (ترامب) لسدة الحكم، لهذا سيقاتل بكل ما يملك من قوة للاستحواذ على الجزء الأكبر من كعكة العالم من خلال فك وإعادة تركيب المنظومة العالمية القائمة بكل مركباتها الاممية، المتشكلة مع نهاية الحرب العالمية الثانية 1945. لأنها لم تعد تفي بأهداف ومصالح الولايات المتحدة الأميركية.
وكان نصيب الشرق الأوسط عموما، والوطن العربي خصوصا كبيرا في الاستراتيجية الصهيو أميركية، فبعدما ساهمت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما 2008 / 2016 في حرف بوصلة الثورات العربية ضد العديد من الأنظمة نهاية عام 2010 ومطلع 2011 مع دفعها جماعة الاخوان المسلمين لتبوء دور الصدارة فيها، في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا والمغرب وسبقتها في السودان والصومال والعراق وفلسطين، التي شكل انقلاب حركة حماس أواسط عام 2007 رأس حربة لما يسمى "الربيع العربي"، الا انها فشلت في تحقيق هدفها في إعادة تقسيم كل الدول العربية، ونجحت في بعضها الاخر جزئيا.
ولكن بعد 7 تشرين اول / أكتوبر 2023 وتفجر الإبادة الجماعية الصهيو أميركية على الشعب العربي الفلسطيني بقيادة الولايات المتحدة، وتشكلها حلفا من 13 دولة بما فيها دولة التطهير العرقي الإسرائيلية فوق النازية المستمرة منذ 449 يوما حتى الان، فإنها تمكنت من إحداث انكسار وسقوط النظام السوري السابق، واسقاط ما يسمى "محور المقاومة"، وتلاشي شعار "وحدة الساحات" مع خروج الساحة اللبنانية، وانكفاء جمهورية ولاية الفقيه على ذاتها، وإعادة طرح الشعار الأميركي الإسرائيلي القديم الجديد "بناء الشرق الأوسط الجديد" الذي يرتكز على توسيع وتعميق عملية تقسيم الدول الوطنية العربية، الى دويلات دينية وطائفية ومذهبية واثنية، الذي بات يردده بنيامين نتنياهو بشكل يومي، كأحد إنجازات الإبادة الجماعية على الشعب العربي الفلسطيني، المستهدف مشروعه الوطني التحرري، وتصفية الكيانية الفلسطينية من جذورها، والتوسع العدواني لدولة إسرائيل اللقيطة على فلسطين التاريخية، والتمدد في  الأراضي العربية السورية واللبنانية ولاحقا الأردنية والمصرية والعراقية والسعودية وفقا للخارطة التي عرضها رئيس الائتلاف الإسرائيلي الحاكم ووزير ماليته على الملأ.
وفي السياق ستعمل الولايات المتحدة على تفكيك هيئة الأمم المتحدة القائمة، لأنها لم تعد تفي بالغرض من تأسيسها، وستخلط الأوراق العالمية، وهو ما سيدفع البشرية قدما نحو الحرب العالمية الثالثة مباشرة وبعيدا عن حروبها بالوكالة. لذا العالم كله في مرحلة مخاض عاصف وشديد الانواء، والمستقبل المنظور يحمل في طياته أخطارا إقليمية وكونية غير مسبوقة. لكن ليس بالضرورة نجاح الولايات المتحدة في مخططها. لأن ارتدادات التحولات الكيفية قد تكون عكسية عليها، لأن التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية تتعمق وتتعاظم داخلها، وقد تكون ولاية الرئيس ال47 هي المحطة الفاصلة في تفكك اميركا، واضمحلال الدولة الإسرائيلية اللقيطة وغير الشرعية، فضلا عن تغير تركيبة العالم نحو عالم جديد متعدد الأقطاب، وبناء منظومة أممية متحررة من قبضة واشنطن. لكن من السابق لأوانه الحديث عن انهيار الراسمالية، ونشوء تشكيلة اجتماعية اقتصادية جديدة.
[email protected]
[email protected]