غزة التي نحبها بلا مؤثرات صوتية

بي دي ان |

04 أغسطس 2024 الساعة 09:14ص

غزة التي نحبها بلا مؤثرات صوتية.. أنادي غزة..وما تبقى من سنابل الحُب في شمس الأفق..أرفض مغادرتها بعناد دالية عنبٍ أبت إلا أن تتسلق جدار بيتٍ تهدم على عناقيدها.. فتشابكت الأسباب بفروعٍ قوية.. تشدني إلى غزة.. فأنا اللاجئة التي قدم والداها أطفالا عام 1948م من هناك.. حيث ما زالت تسمى بذاكرتي ومحياي ومماتي (البلدة الأصلية).

أما هنا في غزة المعشوقة.. ولدت وسرت على رملها الناعم بجوار بحر يتمدد حاميا خاصرتها الغربية ومانحا إياها عهد الجبابرة ممن ساروا على شاطئه قبل آلاف السنين.. ومع هوائها المشبع بملح ويود البحر تعلمت الأبجدية في لغة الجدة التي مضت دون أن تكمل رواية الحكاية.. أخاف الرحيل قبل تسامي دارة القمر مع أهازيج الوطن المتكامل.

ولكن تسمية جديدة ظهرت لي خلال عشر شهور من التشرد.. تقضم حروفها كل حلم وأثر .. فأنا الآن لست لاجئة بل نازحة أيضا.. عزف جارح على جناح الكلمات والمشاعر.

كيف للإنسان أن يكون لاجئا ونازحا في وطنه؟؟ وكيف يعود لمدينته؟؟ يقولون لي: لن تعرفي شوارعها إذا عدت.. فكل شيء اقتلع من حجر وشجر وقلم وكتاب.. فأجيب: الجذور في الأعماق تتنفس وتنمو.. تنتظر عودتي إليها .. سأعرف شوارعها المطحونة من رائحة البحر.. فهو بوصلة القلب.. منه سأتجه شرقا للبلدة القديمة في صباح ما.. سأتعثر كثيرا بكتل اسمنتية مبتورة من بنايات نهشت أطرافها الغربان.. سأرد التحية على سوق الزاوية المهشم.. ومئذنة الجامع العمري المطروحة أرضا..

سأمر على قصر الباشا وألقي تحية الوفاء على الأطلال.. سأتوقف امام أشلاء سوق البسطات بالشجاعية.. وأجلس على المدرجات.. فساقاي أمستا متعبتين من المسافة الطويلة التي قطعتني أجزاء متبعثرة في هوة الزمن.. سأمكث ساعات مع سيدة عجوز تبيع (التين والصبر) وتحرس بقايا الذكريات في عزلة عن عالم أمست زاهدة به، أما ذلك العالم الخارجي فلا يزال منبهرا بيقظتها وديمومتها أمام تأتأة العجز الذي يعاني منه.

ومع أذان المغرب سأعود أدراجي إلى مهد ولحد الفؤاد وما هوى، عند موجاته سأقف مرارا وتكرارا بذاكرة مثقوبة وقلب معطوب، وستكون كل نوافذ المدينة هناك تشهد تألق الشفق الأحمر لتعيد للبيوت والطرقات ألف شمس وشمس في غدٍ آتٍ للشروق، أراها عصية على الانغلاق، تجيبني قبل أن أفكر بسؤالها: لقد ولدت من رحم امرأة كنعانية، يغلب جَلدها على نعومتها، فلم ينكسر عودي، ولكنني أريد وطنا من الوقت لألملم أغصاني وأوراقي الممزقة، وأعيدها لأمكنتها، وأعيد لصغاري طفولتهم الهاربة، أريد مساحة من الحزن أفترشها على شاطئ البحر لأسمع همسات الموتى الأحياء في باطني، تفضي لي بسر المعنى والمبنى، سأقرأ السلام على كل روح هائمة، وأنثرها على زبد الموج، ثم أغسل قدميّ بماء البحر، وأعمد قلبي بأملٍ .. لم يخطئ يوما تعريف الملامح في متاهات المجاز.