غزّة التي تسكُنني..

بي دي ان |

30 يوليو 2024 الساعة 04:21م

الكاتبة
استغرقني لأجلس وأكتب عن غزة قُرابة الثمانية أشهر. مررتُ كغيري من البشر بتقلبات تراوحت بين الاكتئاب الشديد والعجز الأشد. تخلّله بكاءٌ من وجع لم أشعر به من قبل وقلة حيلة وخذلان من عالم "حر" و"غير حر"!  وجدانياً لم أعد أنا. بقدر ما أوجعتني غزة، بقدر ما غيّرتني في الصميم. غالبية المفاهيم والمعتقدات التي تربينا عليها ودرسناها أو أُمليت علينا ذهبت إلى الهاوية وسقط معها إيماننا بكل القوانين الكونية البالية التي تزعم أنها حامية لكرامة الإنسان وحقوقه. علّمتني غزة أن لا أثق بشيء. لا شيء على الإطلاق. فالإنسان ليس متساوياً في المواثيق الدولية. هناك قانون “الرجل الأبيض” يُقابله باقي البشر. قانون “الأقوى” وقانون “الأضعف”. وفي جميع الأحوال، ظلّت غزة على هامش البشرية التي ساوت بقُبحِها بين الضحية والجلاد.

يومياتي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول تفاصيل لا قيمة لها. غزة تسكُنني بكل ما للكلمة من معنى. أنام، إن استطعت النوم على غزة، وأستيقظ على غزة. لا أدري كم مرة استيقظت من نوم متقطع لأتناول هاتفي الجوّال على عجل لأرى إن كان الطقس عاصفاً أم ممطراً في القطاع؟ تترامى أمامي مشاهد النازحين وهم يحاولون تثبيت خيامهم الهشة أو تصريف المياه – الزائر المرغوب والمبغوض في آن واحد – التي تغمر الخيام وساكنيها، ورجفة الصغار والكبار من بردهم وخذلان العالم لهم. أنتظر فصل الشتاء بفارغ الصبر، لكن هذا الشتاء جاء مُرّاً. دعواتي كانت أن يأتي لطيفاً، لُطفا بأهلنا في غزة، وفصل صيف ألطف من الواقع القاسي الذي يصعب على العقل البشري استيعابه. حتى الطقس تآمر على أهل غزة. خيامُ النازحين لهيبٌ لا يُطاق، يصطحب معه كل المخلوقات الزاحفة والطائرة التي تجعل من حياة ساكن الخيمة أكثر من كابوس. لم يعد هناك متسع لكل ما كنا نعتقد يوماً أنه من المسلمات. جميعها باتت رفاهيات بالنسبة لأهل القطاع الصغير بجغرافيته والكبير بروحه وتضحياته وناسه.

عاصرتُ الكثير من مآسي هذا الشعب الكبير إن كان على الصعيد الشخصي أو العام. أستطيع القول بأن لا شيء يشبه ما حدث ويحدث في غزة التي عرّت الجميع وأولهم الفلسطيني نفسه. هذه النكبة الجديدة التي نعيش أدق تفاصيلها بشكل يومي أظهرت مدى هشاشتنا أمام الحدث التاريخي. هشاشةٌ تجلّت على كافة الأصعدة بدءاً من المشهد السياسي الفلسطيني المهترىء، مروراً بضعف مؤسساتنا في الأزمات وانتهاء بمشهدنا الإعلامي الرسمي الضعيف والغارق في إنقسامات سياسية تُقدّم روايات لا تليق بنا كشعب أو بقضيتنا العادلة وحقنا في المقاومة حتى تحرير فلسطين.. كما لا تليق بالمُتلقي العربي والأجنبي الباحث عن رواية فلسطينية حقيقية.. ولا بأس في أن تكون موحدة.


فلسطين لم تعد قضية الفلسطيني وبعض العرب. باتت قضية أممية، إنسانية يتبناها مئات ملايين البشر وإن دلّ ذلك على شيء إنما يدل على تحقيق غزة وأهلها ما فشلنا في تحقيقه خلال سنوات طويلة سياسياً، بات المشهد أكثر اهتراءً مما كان عليه قبل 7 أكتوبر. لم يُوحّدنا الحدث الكبير أو يُوحّد موقفنا وسرديتنا بقدر ما زادها تشرذماً وتشتتاً وانقساماً. مع بعض الاستثناءات التي تمثّلت في جهود فردية لبعض الشخصيات الفلسطينية التي قدّمت رواية متماسكة، فالغالبية العظمى بقيت على النقيض بالرغم من الكم الهائل من التضحيات التي قدّمها وما يزال أهل غزة. “حماية الوحدة الوطنية الفلسطينية داخل الوطن المحتل وخارجه أحد أسلحتنا الرئيسية التي نُقاتل بها أعداءنا وشرطٌ من شروط الانتصار”، قالها يوماً الشهيد ماجد أبو شرار. أين نحن من هذه الوحدة؟ كيف نُواجه تبعات ما يحدث أو استثمار الوعي والحشد غير المسبوق دولياً لنصرة قضيتنا؟ كم واحد منا التزم الصمت في البداية “لأنه ليس هذا وقت النقد”، فالمعركة كبيرة ومستمرة والعدو واحد أو هكذا اعتقدنا. ولكن يبدو أن العدو لم يكن واحداً بالنسبة لكثيرين، فالاصطفافات الفصائلية أهم من الحدث الجلل والقضية الأسمى. نكذب على أنفسنا إذا قُلنا أن الإبادة في غزة وحّدتنا؛ العكسُ هو الصحيح. أبواقٌ كثيرة، منها لم نسمع بها من قبل، ومنها نعرفها جيداً خرجت علينا بتصريحات لا تأتي إلا من عدو، وبتناغم تقشعر له الأبدان مع الرواية الصهيونية والإمبريالية العالمية بدلاً من الدفاع عن حق الفلسطيني في المقاومة إستناداً إلى القوانين الدولية. جاء خطابنا السياسي مرآة لواقعنا المأزوم. أنا واحدة من فلسطينيين كُثر لم تجد نفسها خلال هذه الإبادة المستمرة وقبلها بكثير في أي خطاب رسمي فلسطيني وعربي قائم.

المأساة مستمرة وحدّث ولا حرج عن التفاعل الإنساني معها. كانت المؤسسات الرسمية الفلسطينية غائبة بشكل عام بالرغم من الحاجة الجمة لتوحيد جهودها والوقوف عند الحاجات المهولة التي تمليها حرب الإبادة المستمرة. حياتي كحياة كُثر آخرين باتت تتمحور حول أي سبيل ممكن لمد يد العون لأهلنا في غزة، ولكن كل هذه الجهود تبقى فردية غير منظمة بالرغم من النية الحسنة، وبالتالي لا يُمكنها تلبية الاحتياجات الضخمة في غزة. أحد أسباب الغياب المؤسساتي في الظرف الاستثنائي الذي نعيشه هو الانقسام وغياب الرؤية الموحدة لخطة إغاثية عاجلة. لا يبدو أن نكبة ٤٨ ونكسة ٦٧ وكل المجازر والأحداث المحورية في تاريخ صراعنا الطويل مع العدو علّمتنا شيئاً. أظهرت الإبادة في غزة ذلك جلياً.
يثلج الحشد الدولي غير المسبوق والوعي الذي يوازيه الصدور! أيٌ منّا، وأقصد الفلسطيني والعربي الذي ما يزال يعتبر فلسطين “قضيته” حلمَ يوماً ما أن يجد نفسه أمام مشهد شبيه بما شهدناه طوال عشرة أشهر؟ الوعي المنتشر بين الشباب في الغرب يُوازي إن لم يكن يسبق وعي الكثير من شباب العرب وحتى الفلسطينيين حيال القضية الفلسطينية. وما بات يُعلنه الشباب في أوروبا وأميركا من مواقف صلبة يتردد الكثير من أبناء جلدتنا حتى في التفكير به. “فلسطين من النهر إلى البحر”، “إزالة إسرائيل من الوجود”، “الصهيونية تساوي النازية”، “اسرائيل كيان مجرم”.. وغيرها من الشعارات التي أصبحت معتقدات أكثر منها شعارات لدى كثيرين في الغرب وتحديداً الفئة الشابة. *** فلسطين لم تعد قضية الفلسطيني وبعض العرب. باتت قضية أممية، إنسانية يتبناها مئات ملايين البشر وإن دلّ ذلك على شيء إنما يدل على تحقيق غزة وأهلها ما فشلنا في تحقيقه خلال سنوات طويلة. نعم، استطاع أهل غزة برغم الوجع وكارثية المشهد العام، تلقيننا دروس الكبرياء والعزة والإيمان والتمسك بالحق والصمود. أتساءل كثيراً كيف لأهل غزة القيام بذلك في ظل المستحيل الذي يعيشونه منذ تسعة أشهر؟ لم أترك (شتيمة) إلا واستخدمتها خلال هذه الإبادة الأليمة، ربما تعبيراً عن الغضب والسخط على هذا العالم أو بفعل حاجة تفريغ العجز، ولكنني لم أسمع ولو مرة واحدة أحداً من أهل غزة ينطق بكلمة بذيئة. كل ما سمعناه خلال الأشهر التسعة الماضية مصطلحات تراوحت بين “الحمد لله”، “حسبي الله ونعم الوكيل”، “الله ينتقم منك يا نتنياهو”، وغيرها من المصطلحات “المهذبة” في ظل واقع أقل ما يقال عنه أنّه بذيء للغاية. كم مرة تمنيتُ إيقاف ايقاع هذا العالم من أجل غزة، من أجل إيقاف هذا الجنون، كم مرة أردت الصراخ بكل جوارحي علّ أحداً يسمع ويوقف وجعاً لم أكن يوماً أتخيل أنني أستطيع احتمال

أحاديثي الخاصة مع بعض الأصدقاء والأقرباء في غزة لم تختلف كثيراً عما شاهدناه وسمعناه جميعاً عبر أجهزة التلفزيون ووسائل التواصل المتاحة. كل ردودهم عندما نتجرأ ونسألهم عن حالهم تتراوح بين “الحمد لله”، “والله يخلص هالحرب”، “اشتقنا نرجع إلى بيوتنا وحياتنا”، وأقصاها “والله تعبنا واستوينا”. لا أذكر فعلياً مرة واحدة نطق فيها أحدهم كلمة واحدة تخطت حدود الآداب المتعارف عليها. أتساءل أحياناً عندما يتواصل معي أحدهم من غزة للاطمئنان عليّ أو حتى لتقديم التهنئة بالعيد، فقد مرّ عيدان على أهل غزة في ظل ظروف لا يمكن وصفها؛ أتساءل من أين يأتون بهذه القدرة على الاستمرار؟ لقد نسجتُ خلال الأشهر الماضية صداقات مع كثيرين كانوا مجرد معارف لا يتعدى تواصلنا سابقاً سوى تعليق من هنا أو إعجاب من هناك على منشور ما على وسائل التواصل الاجتماعي. كانوا بحاجة لمتنفس خارجي للاطمئنان على حضورهم في الذاكرة، والتخلص من شعور الوحدة، أو ربما الحاجة لأي خبر عن تهدئة أو بصيص أمل لنهاية هذا الكابوس. توطّدت علاقتي بآخرين كانت تجمعنا صداقة قبل هذه الإبادة. أدخلوني في تفاصيل حياتهم في ظل القتل والنزوح الذي لا ينتهي والتعب المصحوب بالإرهاق والقلق وغيرها من المشاعر الإنسانية المعقدة. يققز قلبي في كلِّ مرة أسمع فيها عن قصف في مكانٍ قريبٍ من أماكن نزوحهم حتى أطمئن عليهم قبل أن يأتي ما بعده. أتردّد أحياناً في السؤال عن حالِهم، فهم بالتأكيد ليسوا بخير، بالرغم من كل ما يقولونه لطمأنتنا من ناحية أو عدم اثقالنا بالمستحيل الذي يعيشونه من ناحية أخرى.

لا أعرف حدّاً للوجع الذي يستطيع الإنسان احتماله. ما أعرفه تماماً في ظل الإبادة المستمرة أننا لم نكن يوماً نُصدّق أنه بامكاننا تحمل الألم الذي لا يُصدّق والقلق الذي لا يُبارحنا والعجز المقيم بيننا والخذلان الذي لا مثيل له.. والصور التي تُحاصرنا بقساوتها وأسطوريتها في آنٍ معاً. كم مرة تمنيتُ إيقاف ايقاع هذا العالم من أجل غزة، من أجل إيقاف هذا الجنون، كم مرة أردت الصراخ بكل جوارحي علّ أحداً يسمع ويوقف وجعاً لم أكن يوماً أتخيل أنني أستطيع احتمال جزءٍ منه. ومع ذلك يبقى الأمل في نهاية الكابوس. نستمد منه قدرتنا على الاستمرار من أجل غزة وأهلها، من أجل فلسطين. مشوار التعافي سيكون طويلاً لا بل طويلاً جداً، وقد يكون ما ينتظرنا أصعب مما عشناه، ويبقى الرجاء في القدرة على ترجمة الوجع إلى أفعال، لتستمر مسيرة الحرية والتحرير نحو وطن ما زلنا نحلم به.

•صحافية وباحثة فلسطينية مقيمة في بيروت