الشهيد معتز الكتري ابن الشمال.. كيف أنت كل هؤلاء يا رجل؟
بي دي ان |
16 يوليو 2024 الساعة 07:52ص

انقطعت فترة طويلة عن كتابة المقالات أو حتى الكتابة الصحفية بشكل عام، ولكن الحدث الجلل الذي اسكت أحبال صوتي وشل سير أفكاري، الجأني إلى قلمي، علني اقتل تلك الغصة التي اصابت قلبي منذ شهرين، فاجعة استشهاد زوجي بعد انتظار عودته لي لمدة سبعة أشهر، وخروجه ونجاته في أكثر من محطة في هذه الحرب الملعونة، جعلني أفقد عقلي ولا أبالغ إن قلت أفقد روحي التي رافقت روحه.
زوجي هو العقيد معتز توفيق الكتري، والذي استشهد فجر الجمعة الموافق 17/5/2024 بعد أن نفذت طائرات الاحتلال الإسرائيلي عملية اغتيال له في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، فعائلة الكتري عائلة مناضلة فوالده وأعمامه مناضلين وأسرى محررين، كان فخورًا بذلك ولكنه لم يتباهى بذلك يوماً ما بقصد الاستغلال كونهم شغلوا مناصب مهمة، بل أكمل طريقهم فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
يوم استشهاده تاهت مني الحروف بل اندثرت كل الكلمات ولأول مرة أكون مثقلة بالضجيج في نقل خبر استشهاد أحد، فانا الصحفية الهمامة وأدير موقعًا صحفياً كاملًا، وكنت أنقل خبر استشهاد أي شخص رغم مرارته وغصته إلا أنني كنت احرره بشكل يليق بهؤلاء الشهداء، إلا خبر استشهاد زوجي لا أدري يومها ما الذي أصابني هل أنقل خبر استشهاد الرجل المناضل المقاتل الوحدوي الذي بغض الانقسام الفلسطيني طيلة السنوات السابقة، أم أزف خبر استشهاد أحد أعمدة جهاز الشرطة العسكرية ومدير المحافظتين الوسطى وغزة، فأجد قلبي الذي نزف دماً من هول المصاب هو الذي يقرر الصياغة الصحفية، فنسيت تماماً أنني صحفية وكان لزاماً عليّا أن أكون محايدة وموضوعية، لكن مع فقيدي فكل الاستثناءات ممكنة، كيف لا، وأنا زوجته وحبيبته ورفيقة دربه، وتناسيت تماماً موقعي الصحفي رغم اننا شركاء في كل شيء.
اقتضبت حروفي واختبأت أصابع يدي، وبدأت مسرعة أكتب دون تريث "حبيبي ونور عيوني ومليك قلبي شهيد بإذن الله" هكذا كان الخبر والعنوان والمادة الصحفية وجُل التفاصيل.
زوجي والذي يكنّى "أبو قصي" ذلك الرجل العسكري الحازم المهاب، ففي حب الوطن لا يعرف مجاملات والانتماء للحزب أقل درجة أو ربما درجات من الوطن، وقد يلغيه من حساباته تماماً إذا تعارض مع حب الوطن، كان يمارس الإعلام بشكل نزيه جداً ربما أكثر مني رغم تخصصي غي هذا المجال والعمل به لأكثر من عشرين عاماً، فترأس وحدة العلاقات العامة والإعلام في الجهاز نفسه لمدة ثلاثة أعوام، فكان كثيراً يرفض أن أعيد تحرير المواد أو أصيغها تحسباً لأي لغط أو تدخل حزبي وعنصري في كتاباتي، ولم يكتفِ بذلك بل كان يختار الصور المرافقة للخبر بعناية فتلك لا تحتوي أعلام فلسطين، وهذه ستسيئ لرجال الأمن، قد لا يشارك إلا صورتين فهُم بنظره مثالية لأنها تمثل فلسطين ، وفلسطين فقط.
لم أسمعه يوما يقول غزة أو الضفة، ولم اره منحازًا لحماس في أفكاره بشكل متشدد بل كان يعارضهم في كثير من التوجهات، كان يعرض وجهة نظره فإن عارضته لا يقول سوى "وجهة نظر تحترم" ، وكان أشد حرصًا في مناسبات "حركة فتح" على نجاح فعاليتهم ويعلن لنفسه ولعساكره حالة طوارئ أخرى غير التي تعلنها الأجهزة الأمنية في غزة، وبعد نجاح المهمة، يكتب في أخباره "حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)" ، ولن انسى ذلك اليوم الذى حاولت ثلة أن تعتدي على عضو اللجنة المركزية لحركة فتح القيادي "أبو ماهر حلس" في تاريخ 31/12/2022 بهدف تخريب المهرجان وكان من المتوقع فعلاً إنهاءه إلا أن تدخلت قيادات كبرى في الأجهزة الأمنية ومن بينهم زوجي وأصروا عل إكمال المهرجان وإنجاحه، وتم اعتقال هذه القلة الخارجة وتأمين المهرجان بقوة أكبر.
كنت انظر إلى تلك السلوكيات على أنها أعجوبة في زمن لا يُعرف فيه حق من باطل، وعندما كنت أقول له هل سيثمر ذلك كله؟ يقول "الوطن أهم الثمار احنا بنروح وبيجي غيرنا"، كم أنت عظيم يا زوجي، سأعترف في هذا السياق أنني كنت من المعارضين السياسيين لأفكاره التي حكمت عليها مسبقاً قبل معاشرته وسماع وجهة نظره، وكنت أعمل في موقع إعلامي معارض وهو لم يفرض عليا أي أوامر في ذلك بل قال حياتنا الشخصية خارجة تماماً عن اختلافاتنا وآراءنا السياسية ، ومع مضي الوقت هو لم يقنعني ابدًا بأفكاره ولم يحاول قط ، بل رأيت بأم عيني كيف هو يواصل الليل بالنهار للحفاظ على أمن البلاد والعباد وكيف تعرض هو ورفقائه لهجمة شرسة من الكثير، ورغم ذلك لم يكترث وأكمل الكفاح، وأصبحت حينها في حيرة أكبر، وبين نارين فأنا الذي أؤمن بالعمل المسلح كيف لي أن أعارضه في كتاباتي، توقفت عن ذلك ومن ثم قدمت استقالتي، حتى لا أكون ذات قلبين. ! !
سألني ذات يوم "كونك كاتبة وصحفية واراكِ تنعين الشهداء وتمجدين الأسرى في حال تم أسري أو استشهادي ماذا ستكتبي عني"، وقتها لم أرد ولا أعرف لماذا لم أفكر حتى بالجواب، ولكني أدركت الآن أن عقلي لم يترجم الكلمات، لم اهتم حينها فكيف تريد من قلبي أن يستوعب رحيلك أو إصابتك بأي أذى.
كنت اعتقد أن هذا الرجل طيب الخصال والأخلاق معي ومع أهل بيته وأصدقائه فقط ، لكنني اكتشفت حبه وتعاطفه مع سجناءه وذويهم فكان يشغل منصب مدير السجون في غزة، ويتعامل معهم بكل حنكة وتواضع إلا من خان الوطن سواء بالعمالة او تجارة المخدرات، واستذكر يوماً - المواقف كُثر- لكن هذا ما استحضرني الآن عندما قدم أهل أحد السجناء طلباً للإفراج عن والدهم لحضور زفاف نجله، إلا أن المسؤول العام رفض ذلك، وتدخل هو وبذل أقصى مجهود حتى يتم قبول طلبه، وكتب تعهد خطي بذلك، وأن يكفله لمدة 48 ساعة، وليست24 ساعة بحسب القانون، وكنت اسأله وأثير مخاوفه إن لم يقم بتسليم نفسه ماذا ستفعل، قال وهو واثقا تماما "أنا دارس نفسية كل شخص.. لست مجرد مديراً للسجن".
حارب الفساد بكل ما أوتي من قوة، لا سيما تجارة المخدرات فعندما كانت تأتيه أوامر عُليا بالقبض على "س" لأنه يتاجر بالمخدرات كان يعلن حالة طوارئ فكيفية إلقاء القبض ليست أهم من الحفاظ على أرواح العساكر، فكانت أرواحهم غالية جداً، ولم يكتف بإرسال قوة بل يكون في مقدمتهم، لم أكن أعلم في حينها هذه التفاصيل منه فهي من اسرار العمل التي كان يحرص على اخفاءها، لكني كنت ألاحظ شرود ذهنه وعدم صفاء تفكيره، وكم الاتصالات والتوجيهات والاجتماعات، وبعد انتهاء العملية والإعلان عن نجاحها إعلاميا يخبرني بالتفاصيل، وفي احدى المرات قلت له لماذا تذهب معهم وأنت غير مكلف بذلك، فرد متفهماً خوفي عليه "وهما العساكر والضباط هدول ملهمش زوجات وأولاد يخافون عليهم".
لم أتفاجأ من كم الحب الذي رأيته من الناس له بعد استشهاده ولكن الغريب من كم القصص والروايات التي سمعتها عنه وعن مساعدته لبعض الأشخاص، أتساءل الآن وباستغراب شديد، كيف لك يا رجل أن تكون هكذا زوج مثالي وابن بار، وأب رائع وصديق وفي ورجل مناضل وفاعلٌ للخير ومتفاني بعملك؟، من أين جئت بهذا الوقت والجهد لممارسة هذا الحب وزرعه بين الناس؟، هنيئا لك يا "قائدي" حب العباد وربهم.
ولمن لا يعرف أو يدعي أن قيادات الأجهزة الأمنية هربت أو تخلت أو تخفت، فأود أن اقول لهم على الأقل على صعيد زوجي ورفقائه القادة فأنا لا شأن لي بالبعض الخارج عن القاعدة، فزوجي تنقل من مكان لمكان ومن إيواء لإيواء وعاش صقيع البرد في الشوارع وحر الصيف بين الركام، وعاش المجاعة فلم يُقدم لهم ما لذ وطاب كما ادعى البعض وترك الشعب يجوع، لدرجة أنه خسر من وزنه أكثر من ثلاثين كيلوجرام، واستذكر صوته الذي رافقه غصه عندما نقل لي خبر أكل أول رغيف خبز مصنوع من الدقيق وليس من علف الحيوانات، ترك بيته وأهله وأولاده وترك كل شيء لأكثر من سبعة شهور، ولم يقبل النزوح وظل صامداً بالشمال إلى أن غدرت به قوى الشر وانتصرت على جسده الصامد الجائع، أما روحه فلن تهزم أبداً فهي في عليين خالداً مخلداً فيها بإذن الله.
يارب إني أشهدك أن زوجي ورفقائه قد جاهدوا صيفاً وشتاءاً في عز الصقيع ووهج الشمس، في صيام شهر رمضان والأشهر الحرم جاهدوا فوق الأرض وتحتها على اليابسة وبعضهم في البحار وفي وسط الشوارع وبين الركام، وخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيلك، وقاتلوا وقتلوا وما وهنوا لما أصابهم، وما ضعفوا، وما استكانوا، فانصرهم يا الله نصراً عزيزاً مؤزراً وافتح لهم ولنا فتحاً مبيناً، وارحم شهيدي ومن سبقه ومن يلحق به.