قراءة في كتاب (عمر مؤجل) للكاتبة سهام السايح

بي دي ان |

11 يوليو 2023 الساعة 09:08م

الكاتب
تعتبر المجموعة (عمر مؤجل) للكاتبة سهام السايح مجموعة قصصية قصيرة سيكولوجية في عملية تداعي حرّ من أول المجموعة حتى آخرها وهي مجموعة متخيلة ضمنتها الكاتبة لحظات وأفكار واقعية تنمُّ عن قضايا العصر الاجتماعية والفكرية، وهي باختصارٍ شهادةٌ من الكاتبة على واقعها أرادت من خلالها أن تسجل رأيها في الرَّجل (الأب، الزَّوج، الابن) وقد اختارت لها هذا القالب السَّيكولوجي لتتيح لأبطال قصصها أن تفعل ما تريدي وبالشَّكل الذي تريد  فقد شكل النَّوع الاجتماعي ملمحاً أساسياً في أحداث المجموعة وحكاياتها، يتمثل في نظرة الكاتبة للرَّجل، وقد استعانت الكاتبة باطلاعها ومعرفتها العميقة بالشَّخصيات النَّفسية والأدبية في كتابة قصصها، ولم تجعل من قصصها أداة للوصول إلى غاية في ذاتها فجاءت قصصها استعراضاً لمعارفٍ سيكولوجيةٍ متعلقةٍ بشخصياتٍ عالميةٍ شهيرةٍ في مجال الأدب وعلم النَّفس، ومنها: (روسو، ديستوفيسكي، فيكتورهوغو، السيد دار سي، بابلو أسكوبار ...) وكذلك في توظيف أثر البيئة على الشَّخصية حيث تقوم قصصها على رسم صورةٍ انهزاميةٍ غير واعيةٍ للرجل، ومن ذلك ما جاء في قصة (هاوية الندم) فقد صورت شخصيات القصة (الرِّجال) بصورة العاجز، فهذا يوسف يعجر عن حلِّ مشاكل بيته، وهو الذي يحلُّ مشاكل الناس جميعاً، وعندما يعلم سبب المشكلة يصبح أكثر انهزاماً ويتراجع، وكذلك حمزة الذي جعلت منه أنانياً لا يفكر إلا في مصلحته فلا يحتمل زوجته التي تحملت كلَّ ضغوط الحياة لأجله، ولا يراعي بأنَّها تركت أهلها وبلدها لأجله، ولم يراعي قلقها وعدم شعورها بالأمان في الغربة، فكان ذلك السَّبب في خسارة أبنائه، وفي المقابل لم تستطع الكاتبة الإفلات من صورة المرأة الشِّريرة (حنان) التي تَصَنَّعتْ الحبَّ والحنان؛ فكانت سبباً في ضياع حياة الأطفال رزان ويزن، وجاء شخصية مازن في قصة (كرامتها الذبيحة) نتيجةً طبيعيةً للبيئة التي عاش فيها فكانت أمه قد عانت كثيراً في حياتها مع أبيه، ولم يعرف معهم المعنى الحقيقي للأسرة وتماسكها؛ ما وَلَّدَ لديه شيئاً من عقدة أورست -بطل مسرحيات اسخيلوس الذي قتل أمه-؛ ليتحرر من وصمة أنَّه ابنٌ لامرأةٍ قاتلةٍ وسجينةٍ، فلم يستطيع أنْ يتخلص من ذلك إلا بأنْ يدعي موتها وهي تعيش بعيدة عنه في السجن، هذا وتشمل قصصها أيضاً على مظاهر وليدة من عقدة أوديب في جعل الرَّجل السَّبب في المأساة خاصة الأب أو ولي الأمر الذي يزوج ابنته لرجلٍ سيء ويكبرها بكثيرٍ بحجة السَّتر، ومن ذلك ما أشارت إليه في قصة (كرامتها الذبيحة، لست كومبارس، المجنونة)، فنلحظ أنَّ (عمر مؤجل) تعبر عن صراعٍ كبيرٍ بين العقل الباطن والعقل الواعي فيما يتعلق في نقم الكاتبة على الرَّجل ورؤيتها بأنَّ المرأة ضحيةٌ لأنانية أو قسوة الرَّجل في حين صورته بأنَّه أيضاً ضحيةً لامرأةٍ خائنة لكلَّ معاني الإنسانة كما في شخصية حنان في قصة (هاوية الندم) الأمر الذي يجعل حكايتها داخل المجموعة القصصية أقرب إلى الحدس منه إلى المعرفة العقلية، فالكاتبة تصنع الأزمات والعقدة؛ لكي تظهر براعة حدسها في حلِّها ونلحظ هذا جلياً في قصة (طبق السَّلطة الأخير) التي تظهر فيها سخطها على الرَّجل الذي أبدع أمام الجمهور في إظهار مشاعر الحبِّ والحنان على عكس الحقيقة فهو يستخدم المرأة كوسيلةٍ ليصل إلى أهدافه من النَّجاح والشُّهرة على حساب مشاعرها وحقّها في أنْ تصبح أمّاً، فهو عندما يساعدها يكون لأجل ضيفٍ أو لأجل نفسه وليس رحمة بها أو مودة، الأمر الذي يترجمه العقل الباطن للكاتبة فيظهره حدسها الإبداعي في قصصها بأنَّ ما تعينه المرأة إنَّما هو بسبب رجلٍ أحبته وكانت وفيةً له كما في قصة (المجنونة) التي استوحتها الكاتبة من واقع حياة أديل ابنة الكاتب (فيكتور هوغو).
وقد بلغ اختلاط دور البطل في (عمر مؤجل) بدور الرَّاوية العليمة التي تصور الصِّراع المعرفي والنَّفسي لدى شخصيات قصتها، هذا الصِّراع تصوره وتبرره الرَّاوية وليس شخصيات القصة وأبطالها، لأنَّ البطل يقوم بالحدث وليس النَّتيجة، أما الرَّاوية فيتتبع النتيجة وتأثراتها التي تظهر حدس الكاتبة في أحداث القصة، ومن ذلك تَكرار مشهد استيقاظ (صبا) في قصة (لست كومبارس) وفي وجهها الممرض حاتم، حيث تروي الكاتبة تفاصيل الصِّراع النَّفسي الذي خاضته صبا بطلة القصة، وكذلك أيضاً في قصة: (عناقات العمر المؤجل، ليلة بلون الفضة)، وهنا يبرز دور الراوي العليم وليس بطل القصة، ورغم أنَّ هذه القصة انتهت فينياً بسفر صبا وتركها للبلاد، إلا أنَّ الكاتبة أخفت موقفاً ختامياً لم تمهد له مسبقاً وإنما أشارت أليه في نهاية القصة بسؤالها غسان عن الوطن، وذلك بأنَّ البطل يبحث عن الأمان فقط، وكذلك في قصة (في عيد ميلاده الأربعين) التي أخفت فيها الكثير من التفاصيل الختامية التي عاشها (بابلو اسكوبار) في يومه الأخير، وهو ما يجعل هذه القصص تميل إلى الاستعراضية فقد قدمت الكاتبة فيها كلَّ ما لديها من المعلومات والتَّحليل، ولم تجعل للقارئ الدور الظَّاهر في صنع الأحداث والتَّفكير والتَّشخيص، هذا وقد وظفت الكاتبة في قصصها ظاهرةً فنيةً جديرة بالدراسة، تنطلق منها حكاية القصة، والمحور الرَّئيس فيها، وتتمثل هذه الظَّاهرة في الموضات والعتبات التي تلخص هدف القصة ككلٍّ ومن أبزها: "الكلمات التي تصف مشاعري غير متوفرة باللغة بعد، ربما تنتظرني في عمر مؤجل"( )، " يا رجلاً من نبيذ وعلقم أعطيتني كلَّ الثمالة وكلَّ المرارة"( )، "من منَّا بلا خطيئة؟ ... والخطيئة لا تختفي إلا بموت الندم"( )، فتصف بها الكاتبة الخطوط الأساسية الأولى التي تبني من خلالها تصورات وتخيلات الكاتبة التي انطلقت منها في قصتها، بالإضافة إلى الهوامش التي وقَّعَتْ بها في نهاية قصصها لتقدم للنَّص قصده أو التَّعليق عليه، بتزويد القارئ بواقع الحكاية التي يرجع إليها، وهي من أهم الوسائل المساعدة لفهم النَّص والغرض منه؛ كونها في معظم القصص داخل المجموعة المحرك الفاعل الأول للنص، واعتمدت الكاتبة في ذلك على مخزونها الثقافي والمعرفي من نتاجات الكُتاب وسيرهم المتعددة، التي لها أثر كبير في تكوين شخصية الكاتب الأدبية، ودفعها نحو التطور الأدبي، ويظهر هذا جلياً في معظم قصص (عمر مؤجل) من خلال علاقة البطلة في القصص بالكتب والرِّوايات والمكتبات التي كانت تهرب إليها في كلِّ مرة تضيق بها الحياة لتُخلصها من واقعها الأليم وتنقلها إلى عالمها الوردي التي رسمته لها الروايات وحكايات العشاق، ومن ذلك ما جاء في قصة (عناقات العمر المؤجل): "ذهبت إلى مكتبتي لأتناول كتاباً آخر، علي أن أعيد توازني في أفكاري هناك كتب كثيرة ..."( )، وكذلك ما جاء في قصة (لست كومبارس) "كانت مكتبتها أغلى ما تمتلك سهمت قليلاً ثمَّ تذكرت حينما كانت تجمع مصروفها أسبوعاً تلو الأسبوع لتشتري الروايات..."( )، ومن ذلك حديثها حول رواية البؤساء وبطلها جان فلجان، وهولدن بطل رواية سالينجر، وأطفال كولومبيا ...
وختامًا فقد أبدعت الكاتبة في توظيفها لتقنية السرد القصصي وتطبيقها في قصصها، من حيث أشكال السَّرد المتعددة، وأيضاً من حيث توظيف الضَّمائر التي استخدمتها داخل القصة الواحدة، واستطاعت توظيف تلك التِّقنيات السَّردية القصصية الحديثة في بنية النَّص القصصي، كما في قصة: (جميلة موسكو، لست كومبارس) والاسترجاع كما في قصة (عناقات العمر المؤجل)، هذا بالإضافة إلى استعارة الكاتبة تقنيات العمل المسرحي وتطويعها داخل قصتها؛ لإضفاء الطَّابع الدرامي عليها، كما في قصة (طبق السَّلطة الأخير) لتحقيق التَّفاعل النَّشط داخل القصة، من خلال عرض الأفكار وطرح القضايا ومناقشتها، لتنشيط الفعل الدرامي وبث الحيوية الفكرية والانفعالية في القصة.