برهان وسؤال المصير

بي دي ان |

24 يونيو 2023 الساعة 12:09ص

الكاتب
واجه العرب خصوصا وشعوب العالم الثالث تحديات هائلة مع صعود التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية، التي أحدثت تحولات دراماتيكية في العلاقة بين علاقات وقوى الإنتاج داخل حدود الأسواق القومية الناشئة، وبين القوميات الصاعدة والشعوب المنتشرة في قارات العالم، حيث سعت النخب الأوروبية المتحررة من براثن الاقطاعية الى فضاء البرجوازية وقيمها الجديدة، وافساحها المجال لحرية بيع وشراء قوة العمل، وتشكيلها عقود اجتماعية ناظمة للعلاقات بين الحكام والمحكومين بمعايير الطبقة الحاكمة والمتسيدة على المجتمع، وحاجتها الى الثروات الطبيعية من الشعوب والجماعات البشرية التي بقيت أسيرة الاقتصاد الرعوي البدائي والاقطاعي، مما دفعها لشن حروبها على تلك الشعوب، ونهب خياراتها وثرواتها، والحؤول دون نهوضها او تطورها. فضلا عن اخضاعها لقيم ثقافية مشوهة، وهادفة في آن، هدفها الأساس تعميم ونشر أفكار سوداوية عن الذات في أوساط الجماعات البشرية العاجزة عن الارتقاء بمكانتها لمستوى المجتمعات المتحضرة، والقابضة على زمام الأمور في الصناعة والزراعة والصناعات العسكرية والثقافة والانتاج والأسواق، وتحويل الشعوب الى مجرد مستهلك لمنتجاتها وسلعها.
وانعكست هذه الفوارق والتناقضات العميقة والواسعة بين الشعوب الأوروبية وباقي شعوب الارض ومنهم الشعوب العربية والإسلامية والبوذية والهندوسية والفارسية والافريقية واللاتينية الأميركية لصالح القوى الرأسمالية الممسكة بزمام الأمور، وضد الشعوب المستعمرة والتابعة، التي فقدت نخبها وقواها الحية القدرة على كسر التابوهات الغربية الاستعمارية بشكليها القديم والجديد فشلت وارتدت على الشعوب، وبقيت أسيرة الكوابح المفروضة عليها، وكل المحاولات التي قامت بها القوى الوطنية والقومية لوقف الاستقواء والهيمنة الغربية، بيد ان كل تلك المحاولات تحطمت، وبعض التجارب الناجحة، لم تفلت من التحديات الاستعمارية، وعصا اباطرة رأس المال المالي والصناعي والعسكري والان السيبراني.
وهذا التصادم والتناقض التناحري بين الشعوب الرأسمالية والشعوب الواقعة تحت نير سطوتها واستغلالها وهيمنتها، افقد العالم الثالث ومنه العرب النهوض والتطور، ووضع مجتمعاتها في دائرة المحوطة، والتابعية للمركز، ليس هذا فحسب، وانما اسقط نخبها في متاهة الضياع وافتقاد ناصية المعرفة والقراءة الموضوعية لسياق عملية التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وبقيت أسيرة الخلط المتعمد، او نتاج الجهل، او لتنفيذ تعليمات المؤسسات الثقافية والفكرية الغربية، وترديد مقولات المستشرقين والمستعربين حول "تخلف الذات"، و"غياب او قصور العقل"، و"العقل المؤبد في حقب التاريخ والسلف والموروث الديني والاجتماعي والاقتصادي البدائي" وغيرها من المقولات فاقدة الاهلية، والمسؤولية. لانها غيبت القراءة العلمية والواقعية لتطور المجتمعات العربية والعالم ثالثية، وتجاهلت دور العامل الموضوعي المقرر والحاسم في آن في إغلاق دائرة التطور للشعب العربي طيلة القرون التالية لاندثار الدولة العباسية.
وشاء الغرب الرأسمالي في كل مرحلة تاريخية من سيرورة وصيرورة تاريخ العرب وضع العقبات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية لابقائهم في دائرة المحوطة، منذ تجربة محمد علي، وعبد الناصر وصدام حسين وغيرها من التجارب القومية العربية، وكان اوجد استنادا لنتائج مؤتمر كامبل نبرمان 1905 /1907 ثم اتفاقية سايكس بيكو 1916 ووعد بلفور وصك الانتداب وقرار التقسيم الدولي 181 الدولة الاستعمارية الصهيونية اللقيطة وما تلاها من حروب على شعوب الامة العربية وقادتها من أصحاب المشاريع القومية، ومن ثم اطلاق نموذج حروب التخريب من الداخل عبر الانقلابات أولا، ومن ثم عبر انتاج جماعات اسلاموية من رحم جماعة الاخوان المسلمين وحزب التحرير وأحزاب الله الفارسية لضرب ركائز عملية المشروع القومي العربي النهضوي، وهذا ما تمثل في ما سمي "الربيع العربي" في العقد الثاني من القرن الحالي، لتحقيق اكثر من هدف، أولا تأبيد الاستعمار الإسرائيلي على فلسطين؛ ثانيا اخضاع الأنظمة العربية للسيطرة الصهيو أميركية، وتخليها عن المصالح الوطنية والقومية؛ ثالثا تعميق التطبيع المجاني في أوساط الشعوب العربية؛ رابعا اسقاط مصالح وحقوق وثوابت الشعب العربي الفلسطيني؛ خامسا حماية الأنظمة التابعة والفاسدة والمأجورة العربية من غضب الجماهير الشعبية؛ سادسا خنق وقتل اية محاولة وطنية او قومية ترتقي لمستوى طموح النخب والقوى الحية العربية؛ سادسا تفتيت الهويات الوطنية والقومية وتحويلها الى هويات قزمية مشوهة تتوزع بين المناطقية والعشائرية والطائفية والمذهبية والاثنية، لقتل روح الوحدة والتكامل بين شعوب الامة؛ سابعا لتشوية الدين الإسلامي الحنيف، وخلق نمطية فكرية مشوهة لاستعداء شعوب العالم ضد اتباع الديانة الإسلامية عموما، وليس ضد التكفيريين الذين انتجتهم أجهزة الامن الغربية الصهيونية بالتكامل مع التنظيم الدولي للاخوان المسلمين وحزب التحرير ومن لف لفهم من أحزاب الله الفارسية.
والنتيجة التي خلص اليها المفكر برهان غليون في كتابه " سؤال المصير – قرنان من صراع العرب من اجل السيادة والحرية"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ويقع في 232 صفحة، ان المشكلة ليست في الذات العربية، ولا في الدين الإسلامي، ولا في العقل العربي، ولا في السلف والبيئة الحاضنة له، وانما في هيمنة وسيطرة الغرب الاستعماري، وادواته القاهرة ان كانت محلية نموذجها الأنظمة العربية الفاسدة والتابعة، والدولة الصهيونية اللقيطة، واشتقاقاتها الاخوانية ورديفاتها من المجموعات التكفيرية والتخوينية.
كل اتباع الديانات السماوية والوضعية عاشت وتعيش الحروب والصراعات بين طوائفها ومذاهبها ورجالاتها، وكل الأنظمة دونما استثناء الرأسمالية التي تدعي انها ديمقراطية، وهي الأكثر وحشية وانتاجا للارهاب، والأنظمة الشمولية بما في ذلك الأنظمة الاشتراكية التي افتقدت للديمقراطية، والأنظمة الديكتاتورية وغيرها من الأنظمة الثيوقراطية لم تخلُ من الفساد والتخلف وعداء الشعوب، وتقويض الديمقراطية الحقيقية. ولكن العديد منها تمكن من النهوض والتطور وإيجاد مكان له تحت الشمس. بيد ان القيود المفروضة على العرب كانت اعمق واقسى واشد وحشية للعديد من العوامل المذكورة انفا، وهذا لا يعفي الذات القومية العربية من مواجهة التحدي، وكسر حلقات الاستعمار الرأسمالي ودولة المشروع الصهيوني وتحرر الشعوب من سطوة الجماعات الاسلاموية المأجورة، والتي لا علاقة لها بالإسلام الا بالاسم.
[email protected]
[email protected]