جنين أيقونة المقاومة وكابوس الاحتلال

بي دي ان |

19 يونيو 2023 الساعة 08:39م

الكاتب
لم توقف حكومة الاحتلال الإسرائيلي التحريض على جنين بكامل جغرافيتها وخاصة مخيمها الذي دمرته آلة الحرب الإسرائيلية في شهر نيسان (إبريل) 2002، والدفع بقوات جيشها لخنق وفرض الحصار على المدينة والتلويح بشن عملية عسكرية للقضاء على المقاومة فيها على غرار عملية «السور الواقي».
فما حدث في التاسع عشر من حزيران (يونيو) 2023 وما قبل هذا التاريخ بأسابيع وأشهر وسنوات، حدثاً ليس عابراً إنما يجهز لما بعده وخاصة أن العدو الإسرائيلي أراد مباغتة المقاومة عبر عمليات الكر والفر ولكنه وقع في شر أعماله، عندما فجر المقاومون عبوات ناسفة بآليات الاحتلال وأعطبوها واشتبكوا مع قواته موقعين إصابات في صفوف جنوده ما دفع طائرات الاحتلال للمشاركة في هذه العملية لإنقاذ قوات الجيش التي وقعت في كمين محكم للمقاومة بإطلاق النار العشوائي، ما أدى لاستشهاد عدد من المدنيين وأبطال المقاومة الفلسطينية، في حين أفشل هؤلاء المقاتلون اقتحام جنين واجبروا الاحتلال على جر ذيول هزيمته خائباً معلناً انتهاء معركة جنين. 
حملات التحريض على جنين ومخيمها لم تتوقف، حيث دعت حكومة الاحتلال الفاشية قوات جيشها للاستعداد لشن عملية عسكرية شمال الضفة الفلسطينية لاجتثاث المقاومة، ولكن تلك الدعوات يعارضها جهاز «الشاباك» الإسرائيلي لتخوفه من الدخول في هكذا عملية وخاصة أن سلاح العبوات الناسفة قد يلحق خسائر فادحة في صفوف جنوده إلى جانب تخوفه من تفجر الأوضاع في الضفة وغزة. 
الصحفيون والمسعفون حالهم كحال المدنيين في جنين ومدن الضفة لم يسلموا من استهداف قوات الاحتلال، رغم ارتدائهم شارات تدلل على هويتهم، فكما اغتال جنود الاحتلال الزميلة الصحفية شيرين أبو عاقلة ولم يعاقبوا على تلك الجريمة حتى هذه اللحظة، استهدف الصحفيون بوابل من الرصاص لمنعهم من توثيق عدوان الاحتلال على جنين ومخيمها والتي وصلت تلك الرصاصات إلى خاصرة الزميل الصحفي حازم ناصر الذي كان يرتدي سترة وخوذة الصحافة ما يدلل أن الاحتلال أطلق النار عليه بشكل متعمد بُغية قتله وترهيب الصحفيين وفرض تعتيم إعلامي عن جرائمه التي يقترفها بحق المدنيين.
في جنين تفوح رائحة البارود والرصاص في كل مكان ويعيش سكانها حياتهم بطرقهم الخاصة، شهيد يودع شهيداً، وشهيد يوصي بآخر، شهداء جنين حالهم وشكلهم يختلف عن باقي شهداء فلسطين، في شوارع وأزقة جنين تشتم رائحة الدم في كل مكان. كل بيوت وشوارع وأحياء جنين تعيش الموت وتودع أبنائها الشهداء بالزغاريد والورود في مواكب جنائزية مُهيبة، ولكن للحياة في جنين طعم آخر، فهي محاطة بوابل من الآلام والآمال معاً.
جنين خزان الثورة والانتفاضة الفلسطينية، جنين أيقونة نضالية في العطاء والتضحية، لها أن تفخر بأبنائها الشهداء، ففيها استشهد القائد القومي عز الدين القسام في جبال يعبد، وفيها ولد وترعرع الشهيد خالد نزال، واستشهدت الطالبة منتهى الحوراني خلال قيادتها مسيرة طلابية عام1974  وفيها استشهدت أيقونة الصحافة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، وفي جنين ولد وترعرع أسرى سجن جلبوع، وتصحو كل يوم في جنين على خبر شهيد أو أسير أو جريح، أو هدم بيت، وهي التي تتصدر قائمة المدن الفلسطينية في إحصائيات الشهداء والجرحى.
جنين لا تستطيع أن تصفها الكلمات والمرادفات، فقد وصفها الشهيد الرمز ياسر عرفات بـ«جنين غراد»، وعبر عنها المخرج الفلسطيني محمد البكري وهو صاحب الفيلم الشهير (جنين جنين) الذي تحدث عن معركة جنين عام 2002 قائلاً: «ليس فقط الموت، كانت التفاصيل الصغيرة تقتلني، أتذكر ذلك اللاجئ الذي قال لي عن صدمته عندما أفاق صباحاً ووجد منزل جاره كومة حجارة»، وكتب عنها الصحفيون ومنهم الصحفي الألماني الذي زار مخيمها بعد حرب الإبادة عام 2002 قائلاً «كل ما اعتقدت أنني أملكه من معلومات عن الأوضاع في فلسطين قد تحطم، فالمعلومات والصور شيء، والواقع شيء آخر، يجب أن تضع قدمك على الأرض لتعرف حقاً ما الذي جرى هنا... لا توجد أفران غاز هنا، ولكن القتل لا يتم فقط من خلال أفران الغاز، ما فعله الجيش الإسرائيلي يحمل نفس أعمال النازيين في أوشفيتس..».
هذا واقع جنين كما هو واقع فلسطين بعاصمتها وبمدنها وقراها ومخيماتها وبجناحي الوطن (48 +67)، وصولاً إلى شتات أبنائها في معارك التاريخ دفاعاً على الهوية والأرض والشعب والحقوق، حيث وصفها الشاعر الفلسطيني سميح القاسم «يا وجع قلبك يا جنين.. وأنتِ كل يومٍ تودعين بطلاً من رجالك.. وتبكين بحرقةٍ على فتية بعمر الورد.. ويا عزك يا جنين وأنتِ تكتبين بدمكِ تاريخاً مُشرفاً لشعبٍ يموت من أجل حريته.. جنين ستبقى نافذة فلسطين المشرقة نحو الاستقلال والأمل والغد الأجمل!».
إن هذه الجريمة النكراء والبشعة في جنين لم تدفع القيادة الفلسطينية إلى اتخاذ خطوات جريئة منها قطع كل أشكال العلاقة مع دولة الاحتلال كونها تشن حرباً مسعورة على الشعب الفلسطيني أو حتى تعليقها أو تعليق العمل بمسار العقبة –شرم الشيخ الأمني بل اكتفت بتعليق اجتماعات اللجنة الاقتصادية بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال احتجاجاً على تسريع الاستيطان والضم، واكتفت أيضاً بالإكثار من بيانات الشجب والتنديد وإطلاق نداءات الاستجداء العربي والدولي والرهانات الخاسرة على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي وهي تدرك أن تزايد جرائم الاحتلال سببها التواطؤ الأميركي والتراخي العربي وانفتاح بعض الدول العربية في علاقاتها مع دولة الاحتلال. 
وأمام استمرار السياسات العدوانية والجرائم الإسرائيلية والتي تأخذ أشكالاً تصاعدية وخاصة مع الحكومة الإسرائيلية الفاشية برئاسة نتنياهو واتساع نفوذ المستوطنين وانتقالهم للفعل المؤثر فيها عبر تشكيلات لميليشيات منظمة ومسلحة تدعو لحلول صفرية للصراع يقوم على الضم الزاحف، والقتل والإعدام، والتهجير والتهويد وهدم المنازل والمنشآت، للاستيلاء على كامل أرض فلسطين، وإقامة دولة إسرائيل الكبرى القومية باعتبارها حسب إدعاء حكومة نتنياهو «ملكاً للشعب اليهودي حصراً»، وهذا يضع الحالة الفلسطينية بأكملها وقضية شعبنا أمام واقع جديد لا يمكن معالجته بالأساليب القديمة، ولا يبرر استمرار الانقسام ولا سياسة التفرد والهيمنة، ولا سياسة تغييب اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي ولا قراراتهما.
إنما على القيادة الفلسطينية التي دعت لاجتماع طارئ، لتحمل مسؤولياتها إزاء ما يجري من فرض الاحتلال للوقائع الميدانية في سياق حسم المعركة من جانب واحد عبر اعتماد سياسة جديدة للمواجهة الشعبية الشاملة في الميدان وفي المحافل الدولية من خلال تطوير المقاومة الشعبية باعتبارها صيغة حرب التحرير الشعبية وتوفير الحماية السياسية والأمنية لها وتشكيل القيادة الوطنية الموحدة لإدارة المعركة في الضفة وغزة، وإعادة النظر بالعقيدة الأمنية للمؤسسة الأمنية للسلطة لتتحمل مسؤولياتها في حماية شعبنا ومقاومته وأرضه من جرائم الاحتلال والمستوطنين.

• عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين