الأسر.. المأسور؟!

بي دي ان |

04 مايو 2023 الساعة 06:22م

الكاتب
- لم يشك في أن الكثيرين يشاركونه مشاعره ويعانون أزمته، ولكن السبيل فيما يبدو مسدودٌ في وجوه الجميع!!، فقال: لست على ما يُرام، وإذا بصاحبه يتساءل في لطفٍ : ولماذا لم تذهب إلى بيتك؟ فقال بنبرة تنهدية : أريد أن أنفرد بنفسي بعيدًا عن المقهى والبيت ... بعيدًا عن كل شيء!، وحين وجد في قلبه نغز ألم ، حدجه بنظرة عزاء أنساني وشعر نحوه برثاء واحترام عميقين، وشعر بأن أنبل ما في صدره ينحني لصديقه في رثاءً واحترامًا؛ الحق أنه رجل كما يُقال عنه وأكثر ... مثالًا للصبر والأمل.

-  ذهب بعيدًا عن أضواء المصابيح، وفي الموضع الذي اختاره بعناية، ركن مظلم، جلس على طرف المقعد، منفعل الصدر،  ينظر إلى الشاطئ المدثَّر بالرمال البيضاء الناعمة، يترامى إلى ما لا نهاية، سكون مؤثر، والوقت يمر كحز السكين على سطح الألم، تقلَّص قلبه ألمًا وحزنًا، بدا كمن يناقش نفسه! فتشجع على البقاء بقوة الوجع الذي ساقه إلى المجيء، وهيهات أن يدري أحد شيئًا عن أحاديث الظلام، و رُعب الماضي و الحاضر، أو التفكير في الهاوية التي ليس لها قرار؟! انقبض صدره. وغرق في دوامة من الحديث الداخلي، فلمأساة قصمت ظهره.

- وما إن تلح عليَّه الآلام حتى يعود إلى التفكير فيه، وهو يتساءل متى يفوز باللقاء؟ لفحه سيف الهواء البارد كلسع السياط، و ترامى إليه هدير الأمواج، موجات متقطعة وبدرجات متفاوتة بين الشدة والاعتدال، وتتابعت الأصوات في رتابتها تنفث كآبة كالغبار، كأنما تنبعث من خزانة للأحزان، ثقل قلبه وتحجرتا عينيه أن تذرفا دمعةً، وضغط الانقباض على أضلعه ضغطًا غير محتمل. فتأرجح الخاطر بين التعاسة والألم، و بين عواطف الأبوة الأصيلة العميقة التي يلهمها كل والد بطريقته الخاصة لحبات القلوب، وفلذات الأكباد؛ فخنقته العبرات، و من شدة الألم لم يعد يشعر به!!

- انحسرت عنه موجةُ البكاء، فيلقي ناظريه عن كثب إلى الشاطئ الهادئ حتى انطبعت  صورته الساحرة في ذهنه، فقال لنفسه: ليت ذلك يدوم بلا قتل؟! كان يحب الحياة؟! وإن بدت أحيانًا أمقتَ من الموت في معتقل شمشون و مختبر الجنوب... حياة أفظع من كارثة وظلمة الليل، فالضحايا إما أبرياء يجب حمايتهم. أو تعساء لا يجوز أبادتهم؟! فمَن يحكم بالإعدام على النساء والأطفال الأبرياء؟! حياتنا تفنى بين العدوان والمحرقة و القلق والإحباط؛ وأثقل عليها صلاحيات الأسر على المأسور؟!

- وكأنهم سجل لقرَف الزمن؟! و خير ممثلين للضياع، أناس يمقتهم لحد المرض!! قوة على الضعيف حد الغرور ، وقبضة من حديد ونار ، حكم فردي مطلق هناك!! وحزبي غرئبي .. ضرئبي مطلق هنا؟! تهميش للشعب حد الاستبعاد ، بطالة وحصار ، محرقة وسجون ، قهر ، وفقر ودمار !! لم يشك في أن الكثيرين يشاركونه مشاعره ويعانون أزمته، ولكن السبيل فيما يبدو مسدودٌ في وجوه الجميع؟! مَن يجد الشجاعة ليقول ذلك؟! فالشاهد عليهم شهيد!! ولكن قريبا ستذروهم رياح الغضب لأقل هفوة.

- منهم من يواصل الاتجار والربح، وأقل ما يعنيهم تفاهة الثمن! أما سلطات الأسر على المأسور... سلطات الغيبوبة. فلا تشعر لهذا المواطن بوجود؟! ولعلها لم تعُد تذكره على الإطلاق، فأصبح لكل شيء قيمة إلا الإنسان! وبالتدريج اعطيت لهم صلاحيات الأسر على المأسور... فلا أغلبيَّة لهؤلاء أو أولئك؟! فالكل في السجن سوء ربما حبٍّا في الديمقراطية الساخرة؟! تحت رحمة المتحكم الذي يقوم بأجراء التجارب على سكان معتقل شمشون... واهل مختبر الجنوب!!

- الكل يُريد أن يعيش، لكن الحياة تجري على غير ما يجب! لا يحب العدوان الدوري، وفقدان النساء والاطفال. البنات والبنين تحت انقضاض الموت والمحرقة، أو اختفاء إنسان نهائيًا من الدنيا، وتذكر ابنه الأصغر الذي شهد وفاته، ثم وهو يبتسم مشرقًا، وفي وجهه جمال لا يمكن أن يُنسى، ولكن أين هو؟! انطفأ الأمل كما ينطفئ المصباح بغتة.

- تذكر حزنه الشديد عليه، وأحزان الأهل والأصدقاء، وفترت دقَّات قلبه. بسبب جملة تفكير مأخوذًا بشدة من أصوات الصراخ واكْفِهرار الوجوه ورهبة المنظر ... ووجهه الضائع؛ كان الأطفال نائمين في هذه الحجرة... الله يرحمك، مَن يتصور أنك دُفنت ذاك اليوم يا كبدي!

- كانت أثر الشظايا الملتهبة حول العنق، والدم حول الفم والأنف، فاغمض العينين ثم لثم جبينه وذهب، ولا أثرَ بعد ذلك لشيء ... رباه!، موجةُ البكاء القلبي الحار. خنقته العبرات، واستحال الجزع حزنًا رزينًا منطويًا في أعماق النفس؛ ووجد نفسه أمام المجهول بقسوته وغرابته بصمته وغموضه، وسخريته واستحالته.

- هذه الخواطر الثقيلة تبعث وقعًا له في صدره صدًى الألم المخيف، ونذير للمتاعب والآلام الجديدة، حاول كثيرًا أن يتحاشاها فتبددت محاولاته في الظلام. وبعثرت ذكرياته، شعر أيضًا بأن ثمة لغز يُوشك أن يخنقه بثقل غموضه؟ فكان يتوجس خيفة من عدوان ومجزرة أخرى، ويشعر بمؤامرةً تُدبَّر في الظلام للقضاء على ضحايا كثيرين؟! إذ ثبت ذهنه على المحرقة التي أمست رمزًا على انكسار نفسه؛ لعلَّ أحدًا لم يتعذب كما تعذب؛ نفس العدوان نفس المحرقة، نفس القاتل الرهيب الهمجي المتوحش، المنتقم المجنون، ورم خبيث، فلا نجاة من عبثه، يقتل الأبرياء و ينفذ جريمته بكل قوه الوحشية الغاشمة؛  ولنا ورم داخلي آخر؟! العجز الساحق، شيء يَعجز حتى خيال البشر!

- شدَّة ما كان يؤثر في أعصابه صوت الطفل، إنه يخشى أن يظل يسمعه حتى بعد الموت ويطارده إلى الأبد!! أليس من حق البريء أن يعرف لماذا استحق هذا؟! فلا يمكن أن يخطر له ببال أنه لن يرى أسرته وأولاده مرةً أخرى، وشعر بدنو المعاناة كالأجل؛ قلبه حزينًا مكتسبًا من الذكرى كآبة واضحة، مغلوبًا على أمره.

- ولم يجهز على طفل بلا ذنب؟! ترى ماذا ينتظرنا غدً. لنأخذ حذرنا؟! وأي جدوى من التفكير؟! ماذا كان ينتظره وهو سَيُقتل إن لم يَقتل! على أي حال ... فليكن حذِرًا أشد الحذر، وليرسم كل خطوة بأناة، ومهما تكن احتمالات المحرقة القادمة. التي قد لاحت مخالبها في الأفق، بقسوتها ووحشيتها تُطمس معالم كل شيء إلا الموت؟! فإنه يدخر لها دماء جديدة؟! فيستوي الجهد الضائع  والعبث مع التقصير ، ما دام لا يحفظ روحًا ولا يدفع أذًى !! عند ذاك قام وهو ينتفض وكل شيء يبدو أسود في عينيه، ماضيًا نحو مصيره. وهو يتحسَّس الطعنات في صدره ولا يرى من الدنيا إلا التراب والطين.