ماكرون يعمق الانزياح

بي دي ان |

16 ابريل 2023 الساعة 12:46ص

الكاتب
التعارضات الأوروبية الأميركية ليست جديدة، لا بل هي قديمة، ولم يسقطها مشروع مارشال الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، وإن خفض مستواها للحد الأدنى بحكم التحولات الناجمة عن تلك الحرب وآثارها الكارثية، وتسيد الولايات المتحدة المعسكر الامبريالي، وفرض هيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على القارة المثخنة بالهزائم والصراعات. ظلت التعارضات في حالة مراوحة بين الصعود المقبول اميركيا والخفوت. لكن أوروبا عموما باستثناء بريطانيا الانكلوسكسونية كانت تبحث دوما عن لحظة تاريخية للخروج من تحت العباءة الأميركية وخاصة القطبين الفرنسي والألماني.
وجاءت ازمة الغواصات بين فرنسا الفرانكوفونية وأستراليا الانغلوسكوسكونية التي وقعت عام 2016 بين البلدين وقيمتها ما يزيد عن 36 مليار يورو، وانقلبت عليها الحكومة الاسترالية في عام 2021، واستبدلتها بغواصات أميركية لتفاقم من حدة الخلافات الأميركية الفرنسية، ورغم تسوية الامر نسبيا، الا ان الصراع ظل تحت الرماد متقدا. كما ان التناقضات الألمانية الأميركية لا تقل حدة، وهناك حساب ثقيل وكبير بين البلدين تجلت مؤخرا في استيراد المانيا خصوصا وأوروبا عموما الغاز من روسيا فيما سمي ازمة "نورد ستريم 1و2" الذي دشن عامي 2011 و2012 مما اثار حفيظة واشنطن، لكنها ضبطت إيقاع غضبها من اتساع وتعمق التعاون الروسي الأوروبي لبعض الوقت، الى ان فجرت الازمة الأوكرانية مع روسيا مباشرة، مما حدا ببوتين للسيطرة على القرم 2014، وكانت الإدارة الأميركية بزعامة باراك أوباما دفعت عملائها للانقلاب على النظام الشرعي في اوكرانيا آنذاك. وبنتيجة تفاقم الصراع لجأ الدب الروسي في شباط / فبراير 2022 للسيطرة على إقليمي دونباس ولوغانسك، استباقا ولقطع الطريق على مخطط إدارة بايدن الهادف الى فرض الهيمنة على روسيا وتفكيكها، ولم تتورع واشنطن عن توجيه ادواتها واتباعها في الربع الأخير من العام الماضي (2022) بتفجير خط نورد ستريم 2 ثلاث مرات بهدف قطع الصلة بين أوروبا ككل وخاصة المانيا وروسيا، وفي ذات الوقت عرضت على الأوروبيين بضاعتها من الغاز وباسعار اعلى، وبجودة اقل مما ضاعف من الامتعاض الاوروبي.
كما ان توريط الولايات المتحدة أوروبا في حرب ليست حربها (الحرب الأوكرانية)، اثار حفيظة اقطابها المانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا، وان بقيت أسيرة الاجندة الأميركية، والتزمت الاسرة الأوروبية بتفريغ مخازنها من الأسلحة، وصناديقها الائتمانية لتمويل أوكرانيا المهزومة. لكن كل من المانيا وفرنسا عبرت مرات عدة عن استياءها ورفضها المنطق الأميركي. وسعت للتمرد على توجهات واملاءات البيت الأبيض.
وهذا ما عكسه الججيج الأوروبي للصين مؤخرا، والذي تمثل بزيارة الرئيس الفرنسي، مانويل ماكرون ورافقته رئيسة المفوضة الأوروبية، اورسولا فون دير لاين بدءا من يوم الاحد الموافق التاسع من ابريل الحالي لثلاثة أيام، اعلن خلالها ساكن الاليزيه موقفا اكثر وضوحا في ضرورة مغادرة المركب الأميركية حسب ما نقلت صحيفة "بوليتيكو" وعدد آخر من الصحفيين الفرنسيين الذين رافقوه في رحلته، عندما قال إنه "يتعين على أوروبا تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، وتجنب الانجرار الى مواجهة بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان." وشدد ماكرون على نظريته حول "الحكم الذاتي الاستراتيجي" لاوروبا، التي لفرنسا دور مركزي فيها، وفي تقرير مصيرها بالتكامل والتعاون مع المانيا لتصبح حسب قوله "قوة عظمى ثالثة" الى جانب الصين وأميركا. وتابع بوضوح اكبر معبرا عن استيائه من التبعية الفرنسية والأوروبية لاميركا حينما أكد ان "الخطر الكبير الذي تواجهه أوروبا، هو انها عالقة في أزمات ليست من شأننا، او ازماتنا مما يمنعها من بناء استقلاليتها الاستراتيجية." وعمق قوله يجب على الأوروبيين الا يكونوا اتباعا لاميركا في أزمات لا دخل لنا فيها. وطالب أوروبا الى "الاستيقاظ" من سباتها، والتفكير بمصالحها الحيوية.
ورغم ان انالينا بير بوك، وزيرة خارجية المانيا، التي زارت الصين في اعقاب انتهاء زيارة الرئيس الفرنسي الأسبوع الماضي بدت نسبيا متناقضة مع ما حمله خطاب ماكرون الاستقلالي، عندما حذرت الصين من مغبة تفاقم الصراع في تايوان، والتداعيات الخطرة التي قد تنجم عنها عالميا. بيد اني افترض، ان هذا التباين شكلي، وناجم عن الكيفية التي تعالج بها القيادة الألمانية الخلافات مع الولايات المتحدة، وهو نوع من طمأنة واشنطن، وعدم توسيع دائرة التناقضات معها. لا سيما وان التحولات العالمية مازالت بحاجة لمزيد من الوضوح، وواشنطن لم تضعف مكانتها في أوساط الدول العميقة في بلدان القارة العجوز.
لكن الحقيقة التي عبر عنها ماكرون ليست بعيدة عن ما يدور في الأوساط الداخلية الألمانية والاسبانية وإلايطالية واللوكسمبورغية .. الخ، وبالتالي فان الانزياح الأوروبي يسير بخط بياني صاعد عن الولايات المتحدة، وإيجاد مكان لها في العالم المتحول الجديد، والاعتقاد الأكبر انها (أوروبا) لن تتورط في صراع اميركا مع الصين، وستعمل خلال المرحلة القادمة على الابتعاد نسبيا عن الازمة الأوكرانية، وتقليص مساعداتها. لانها قدمت للدولة المهزومة اكثر مما يجب، ولم تعد تقبل ان تكون مطية في اليد الأميركية، التي تريد تدمير أوروبا، وابعاد شبح الحرب عن أراضيها.
[email protected]
[email protected]