كابوس المنافذ السواد؟!

بي دي ان |

20 مارس 2023 الساعة 05:34ص

الكاتب
- قال: "الماضي لن يموت، إنه حتى ليس ماضيا"
 امتلأ بمرارة، وحمل من المعاناة فوق ما يحمل طوق الأحياء، فانفرد بوحدته هربًا من الواقع، إلى لا شيء!! جلس على مرأًى من القمر الماضي في العلو، وعمَّا قليل سيختفي عن الأنظار. الليل قد هبط وسكت كل شيء نظر إلى البحر فرأى مصابيح مراكب صغيرة  تنساب بين الامواج المنخفضة، وتجلَّت وشوشة الموج وهو يرتطم بأسفل المقهى؛ ومن قاعة بعيدة عن مجال البصر حمل النسيم أنغام غناء وموسيقى الدبكة. فلعله عرس؟!

   - قال لنفسه : ما الشيء الذي تود تذكُّره طيلة الجلسة بمفردك دون جدوى؛ وهو ما يحتاج إلى تفسير؟! بردت القهوة في الفنجان السادة وتغيَّر مذاقها، ولم يبقَ في النافضة الا عقب سيجارة بقي منها الفلتر والرماد؛ الليل يرامقه خارج المكان، كحوت العنبر حاملًا إليه فيما يحمل من شذا الماء، فيسكِر من الشذا المنتشر كحديقة تعبق بأزها الياسمين. و هدوءًا كالغروب، وانتشر في الجو النعاس، غفا غفوةً قصيرةً حيث يجلس، بمجال خياله وأحلامه، وداخله شعور لم يجِد مثله، فالجلسة غريبةً، والمقهى أيضًا لا يدري موقعها من الزمان، ولعلها لا توجد أصلًا!


- ولمَّا فتح عينَيه وجد صوت مدوِّيًا فوق سطح الماء، رفع الرجل عينَيه في دهشة، وكأنما لا يصدِّق أذُنَيه وعينيه. ثم الْتَفَت نحو مصدر الصوت التفاتةَ مذهولٍ بالمفاجأة، تراءى وجه مطموس المعالم،  لم يكن وحشًا، ولكنه الظلام! وقد بدأ يتكلَّم كلاما داميًا، لا زيف فيه ولا صباغة، وتمثَّل العملاق في لحظات حضوره كالموجة المنفردة، وانكشف المجهول تحت ضوء القمر. وترامى صوته في خلاء، وسرى من الصوت الغامض إلى جسده ما يشبه القشعريرة، فقال لنفسه إن همه الأول هو التذكُّر، فصمت لحظات قبل أن يفيق من دهشته، وكأنما لا يصدِّق أذُنَيه وعينيه. فاستردَّ انتباهه بسرعة وهو يتذكر ... أنه يعرفه أنه هو؟!


-  قال له: هل أضايقك؟! ومن أي شيء تهرب؟! فكل ما في السوق رديء ، وتراخ بلا هدف؛و ترى بعين قلقة تقوُّض قضيتك كما ترى جميع النهايات؟! مشكلتك الحقيقية هي مشكلة الوطن كله؛ هذا هو همي الأول، أهذا هو همك حقٍّا؟! نعم...وصرنا غيرَ ذي موضوع، في ظل صراع بين مختلف القوى المسيطرة، وزحمة الدوافع الفردية؛ ساسة بلا عمل، و سيطر الانحلال السياسي على البعض، وأصبح المنحلُّون سياسيا هم أصحاب الحظوة والنفوذ، والمسئولين في ميدان المكاسب المادية والمناصب، لابتزاز قدر من السلطة الزائفة أو من المال.



- فقال ساخرا: حقا.. للقوم رؤيتهم السياسية التى تتألف من مزيج غريب من الهراء والدهاء؟! سياسية محيرة خارجيا، ومربكة داخليا! ولا توجد الية لفهم هذا الحكم الانقسامي المبهم؟! وسياسة قد شوهتها بصورة قاتلة حالات عدم القدرة على الاستيعاب والفهم ،كونها لا تعكس تفكير ساسي حقيقي؛


 - والذين يحيلون ضعف الناس إلى ذل، و ما أتعس المسئول إذا عجز عن العمل! فأصحاب  المعالي والمصالح ... أصحاب المكاتب المنعزلة، يتعالَون على الشعب، وإذا ما تكلموا عنه فكأنما يتكلمون عن شعبٍ أخر؟! ومن يخاطب رب نعمته- الشعب- بلغة التعالي والكبرياء، او ما يقولون بلغةٍ أو بأخرى: أنت شعب قاصر ونحن الأوصياء؛ ومن هنا يحدث الصدام المضحك أو المبكي بين موقفين! فصار القوم مثار سخرية الناس، وهدفاً لنكاتهم، وما في تفاصيلها من دلالة على النحو غير مسبوق.! بل يخلق لهم  من المواقف والسياسات ما ينفِّرنا من عجزهم وسلبيتهم، ويثير فينا احتقارًا لهم وازدراءً لشأنهم.


-  ثم تتعرض هذه الجموع لألوانٍ خسيسة من الحصار والمحارق والانقسام، وفقدان حق الاختيار، والضرائب والجبايات الغير شرعية، وسيف البطالة الذي يهدر كرامة الإنسان. وكيف أن شبحه يظلل كافة المنافذ أمامه بالسواد، فلا تعود عيناه تريان ومضة نور؛ وإنما تصبح حياته نسيجًا داكنًا من الذل والفاقة والعلاقات غير الإنسانية، وحمل من الشقاء فوق ما يحمل طوق الأحياء؟ وتعبيرًا قاسيًا عن أنه لا يوجد شيء آخر؟!
 


هذا هو الواقع ... و نكبة هذا الشعب المظلوم ، حين يتحول هذا المجتمع إلى فريقين: قلة تملك كل شيء، وإلى جانبها كثرة لا تكاد تملك شيئًا؛ وتتناحر على لا شئ؟! أعني قصة وجودهم الضائع بما فيها، من حيرة المصير، فكيف يمكن الثقة بشيء بعد ذلك؟!


فقال له: ولكنَّ قلمك… يرتبط بقيمٍ ثقافية معينة ؟! قلمك ذو استعداد انتحاري! والناس يرونك بنصف عين فلا قراءة ... ولا قراء؟! والعبث يقتصر عادةً على الناس، وفضلًا عن ذلك كله فإن قسوة المعيشة قد أفسدت تفكيرهم، فالتعاسة متعددة الجوانب وقد تكون عبث وقبض الريح، حتى المقالات الجادة العميقة التي تنشرها لم تجد من يقدِّرها في مجتمعٍ تسوده في مجال الفكر والثقافة والسياسة كل أسباب التدهور!


- قال: سنوات السواد قد صبت بلاياها على رأس الناس، فمن المستغرب أن تسأل: لماذا يعشق أناس غيبوبتهم؟ وينتظر قوم وحدتهم، واستقلالاهم منذ مئة سنة؟! فالانتظار شعور مؤرِّق ولا شفاء منه؟! وهل تكتفي بالصمت عن الباطل؟ أم ستُحوِّل بقلمك المهزلةَ إلى كوميديا سوداء هادفة؟. لا أستطيع ذلك فاللغة هنا خرساء، ونحن في حالة انعدام الوزن من قديم الزمان؟!، ولايزال الثور المغمى المربوط في الساقية الحمراء مستمرا في الدوران و المحرقة، و الدم يسيل بلا انقطاع! أجل ما المانع؟! يعزَّ عليَّ أن أراه وهو يرسف في الأغلال!

 
- انقضى الوقت بسرعة مذهلة! فقال له صوت الظلام: لكي يبقى الشعب حياً، فعليه أن يثور، ولو على الجميع  مرة واحدة! فالثورة هي الرمز الكبير الخالد لكفاح الشعوب؛ و تعكس أهدافها الجارفة على خط السير الكفاحي للشعب ... قد نسموا بالثورة على أنفسنا؛ وفي النهاية حضور الشعب أكبر من أي حزب ! فقال: من يقف أمام  السياسة العمياء؟ و إرادة الحكم الفاشل؟! من سينافس الحزب - الغير-  سياسي، والذي يرى أن استمراره في الحكم بأمر الواقع لآخر يوم في حياة الشعب، هي مسألة حياة أو موت،مهما كان الثمن!


-  قال له ناصحًا من خلال ابتسامة ساخرة: "السلطات حمقاء، ومن أحمق الحمق أن نتحامق على حمقى". وأطلق ضحكة مجلجلة ثم أشعل لفافة تبغ، طبع عليها اسمه وجذب منها نفسًا عميقًا، وقد غاضت ابتسامته، بعد أن تبادلوا الأفكار، واختلفوا تمامًا، ولم يَعُد منهم شيء يُرى بالعين المجرَّدة، وليس ثمة هناك إلا الصراخ, والهواء ...و أصوات الأمواج، ولكن كيف يُريد للحلم أن يتحقَّق؟ الأنين الذي كنا نردده، سراً غدا صيحة تصغي لهاالأمم ، والحق يبدأ في آهات مكتئب وينتهي بزئير ملؤه النقم. كيف يُريد للحلم أن يتحقَّق؟!