خصوصية التعامل الإسرائيلي مع أفريقيا

بي دي ان |

19 فبراير 2023 الساعة 02:35ص

د. عـودة عابـد

انطلاقا من نشأتها المصطنعة في المنطقة ومحاولاتها تقويض أسس ودعائم الأمن القومي العربي حاولت اسرائيل تحقيق جملة من الأهداف في بناء علاقاتها الأفريقية، وإذا أخذنا في الاعتبار الحقائق الجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية المميزة للقارة الأفريقية استطعنا تحديد خمسة أهداف أساسية للوجود الاسرائيلي فيها وذلك على النحو التالي:

1-كسر حدة العزلة الدولية التي فرضتها عليها الدول العربية ومن سار في فلكها، بالإضافة الي محاولة كسب قواعد للتأييد والمساندة، واضفاء نوع من الشرعية السياسية عليها في الساحة الدولية وبالتالي فان أي علاقة مع دولة أفريقية تعني تحييد أي مصدر محتمل لتأييد الدول العربية وأهمها القضية الفلسطينية، وفق ذلك فان اسرائيل كانت تنظر الى أفريقيا باعتبارها ساحة للنزال بينها وبين العرب وفقا لقواعد النظرية الصفرية.

2- العمل على تحقيق أهداف أيديولوجية توراتية خاصة بتقديم اسرائيل على أنها دولة "نموذج" لشعب الله المختار، يفسر ذلك أن اسرائيل اعتمدت دائما على تقديم المساعدات التقنية والتنموية للدول الأفريقية حتى في حال عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية معها. 

3- كسب تأييد الدول الأفريقية من أجل تسوية الصراع العربي- الاسرائيلي، حيث ثم النظر الي الدول الأفريقية باعتبارها بعيدة عن أي انحيازات مسبقة لصالح أي من الطرفين.

4- السعي لتحقيق متطلبات الأمن الاسرائيلي من حيث تأمين كيان اسرائيل وضمان هجرة اليهود الي اسرائيل، والحيلولة دون أن يصبح البحر الأحمر بحيرة عربية، بالإضافة الي التوسع على حساب متطلبات الأمن القومي العربي في المنطقة. 

5- بناء قاعدة استراتيجية لتحقيق الهيمنة الاقليمية لإسرائيل، وذلك من خلال (عقيدة الأطراف)، حيث تعتمد اسرائيل على النيل من أطراف نظام الأمن العربي باعتباره المستهدف في الاستراتيجية الإسرائيلية، حيث أنها تستخدم أساليب عديدة للتغلغل الإسرائيلي في أفريقيا ومن أهم تلك الأساليب عقيدة شد الأطراف، وهي سياسة خارجية تستخدمها الولايات المتحدة أمريكية تجاه الدول الأخرى، وبناءا على هذه السياسة الهدامة من الدول الاستعمارية تجاه الوحدات الدولية الأخرى.

وتعتمد إسرائيل في سياساتها الخارجية ان هنا كخصوصية للتعامل الاسرائيلي مع أفريقيا، حيث ينفرد هذا التعامل بدرجة عالية من الخصوصية تشبه عملية البناء المعماري، تتكون من ثلاث مراحل: أولها: تسوية الأرض ووضع الأساس: تتمثل في الربط الأيديولوجي والحركي بين اسرائيل وحركة الجامعة الأفريقية والزنوجية وغيرها من الحركات الأفريقية، وثانيها: مرحلة البناء: تتمثل في تدعيم أنظمة الحكم المتعاونة والموالية لإسرائيل في القارة، وتوسيع دور حركات المعارضة في الدول غير الموالية لإسرائيل لنشر حالة من عدم الاستقرار السياسي، وثالثتها: مرحلة التجميل : والتي تتمثل في تقديم اسرائيل عروضا سخية من المساعدات المادية والعينية للدول الأفريقية حتى تبدو في نظر هذه الدول نموذجا للتقدم والتنمية والديمقراطية.

كما لا نغفل بأن مصر والسودان حازت على معظم الزخم من التخطيط الإسرائيلي بسبب موقعهما الحيوي، إذ تشكّل مصر أهميةً بسبب دورها الإقليمي والسياسي في المنطقة وثرواتها المائية لمرور قناة السويس، إضافة إلى قوتها العسكرية والاقتصادية، فقامت إسرائيل بتركيز إستراتيجياتها بإضعاف مصر التي تعـد من أقوى دول الطوق القادرة على مجابهة الدولة العبرية، ولا يقلّ السودان أهمية عن مصر بثرواته الزراعية والمائية والنفطية وموقعه في قلب القارة السمراء واحتوائه على الأراضي الخصبة القادرة على إكفاء السلة الغذائية العربية بوجوده في مجرى النيل، والداعم للقضية الفلسطينية، وقد تعرّض إلى العديد من المخططات الأميركية الإسرائيلية لإبقائه مشغولاً بالحروب الأهلية ومشاريع الانفصال، وتعد السودان الدولة الوحيدة التي تقع على الحدود مع دول حوض النيل، ما تشكل تهديداً لإسرائيل، وقد ذكرت (غولدا مائير) رئيسة وزراء إسرائيل سابقاً "أن تقويض السودان والعراق يقتضي استغلال النعرات العرقية فيهما، وهذا يعني أن تفريق وحدة البلدين سيخدم خطة الدولة العبرية في مواجهة الدول العربية، عملتإسرائيل على توطيد علاقاتها مع أثيوبيا وأوغندا وكينيا وزائير لعزل السودان، والتغلغل في باقي الدول الأفريقية، وتحقيقاً لخطتها الإستراتيجية دعمت إسرائيل حركات التمرد عبر أثيوبيا، ودعمت انفصال جنوب السودان، فسارعت إلى الاعتراف به بالعام 2011م كدولة مستقلة؛ هكذا أصبحت لإسرائيل سيطرة بشكل أو بآخر على السودان كدولة معادية من خلال جنوب السودان، بينما تحذو موريتانيا والمغرب والجزائر حذو السودان في عدم وجود علاقاتٍ مع إسرائيل، تعد أثيوبيا من أقوى حلفاء إسرائيل في أفريقيا، فقد جمعت الدولتين علاقاتٌ من نواحٍ مختلفة، إذ تتمتع الأولى بموقع جغرافي مهم عدا عن مواردها المائية المختلفة.
قامت إسرائيل بتوثيق علاقتها مع هذه الدولة التي تعد من الدول المواجهة للسودان ومن الدول التي تشكل أهميةً أخرى بوجود يهود الفلاشا فيها، وتحتل أثيوبيا موقعاً مهماً في الضغط على مصر بسبب مجرى النيل، وتشكل منطقة مهمة لوجود الاتحاد الأفريقي فيها، وبأغلبية مسيحية مقابل التواجد المسلم في أرتيريا والصومال من جهة أخرى، أدركت إسرائيل أهمية مياه حوض النيل وبهذا استغلت هذه المياه بإنشاء السدود عبر شركاتها وخبراتها لصالح صحراء النقب من خلال تأثيرها على أثيوبيا ودول مصادر المياه الأخرى ومنها كينيا، وأوغندا، وبوروندي، والكونغو، وتنزانيا، ورواندا.

ومن أساليب وأدوات السياسة الإسرائيلية في إفريقيا: تتابع إسرائيل على الدوام صعود وهبوط العلاقات العربية - الإفريقية وتراقب ما يحدث من انكسار وشروخ في هذه العلاقات لتعمل على تعميقها واستغلالها لصالحها، ولكنها لا تعتمد على ذلك فقط بل لديها أسلوبها الخاص والذي أهم عناوينه: أولاً: تقديم المساعـدات الاستخبارية والخدمات الأمنية والتدريبات العسكرية وتجارة السلاح. ومن الملفت للنظر أن إسرائيل تمتلك مصداقية كبيرة لدى الدول الإفريقية في ميادين الاستخبارات والتدريبات العسكرية، وحتى في نوعية السلاح ومن البديهي أن تهتم الدول الإفريقية التي تعاني من الصراعات والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والانشقاقات داخل صفوف النخب السياسية الحاكمة اهتماماً بالغاً بقضايا المساعدات الأمنية والاستخبارية والحصول على السلاح، وهو ما دأبت السياسة الإسرائيلية في إفريقيا على التركيز عليه وتعميقه في جميع مراحل علاقاتها الإفريقية، ففي أوائل الستينيات قامت بتدريب قوات وقيادات عسكرية لبعض دول القارة دون مقابل إلى درجة أن بلغ عدد الجيوش الأفريقية التي تلقّى بعض أفرادها تدريباتهم على أيدى الإسرائيليين تسعة عشر جيشا سنة 1967، وفي ذات السياق أنشأت ميناء عسكريا بالقرب من ميناء مصوع، وقاعدة تجسس ومحطات إنذار مبكر في إريتريا، وهناك اليوم حوالي 600 خبير عسكري إسرائيلي في إريتريا وحدها(51) وتشير الإحصاءات التينشرها مركز التعاون الدولي التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية أن عدد الأفارقة الذين تلقوا تدريبهم في إسرائيل عام 1997 وصل إلى نحو 742 متدرباً، إضافة إلى 24636 إفريقياً تلقوا تدريبهم في مراكز التدريب الإسرائيلية خلال الأربعين سنة الماضية.

ثانياً: المساعدات الفنية: وقد اشتملت منذ البداية على ثلاث مجالات أساسية وهي: نقل المهارات التقنية وغيرها من خلال برامج تدريبية معينة وتزويد الدول الإفريقية بخبراء إسرائيليين لمدة قصيرة أو طويلة المدى، وإنشاء شركات مشتركة، وقد استغلت إسرائيل خروج الدول الإفريقية حديثاً من نير الاستعمار الغربي وافتقارها للخبرات الفنية فيشتى المجالات وأنها بحاجة ماسة لمختلف أنواع الدعم والمساندة لتثبيت أركان الدولة، وتحقيق التنمية والاستقرار.

ثالثا: تهتم إسرائيل بشكل خاص بالأشخاص الأفارقة ذوي النفوذ، أو الذين لهم مستقبل سياسي مأمول في بلدانهم، أو الذين ينتمون إلى الأقليات في بلدانهم ويرتبطون مع الولايات المتحدة وبالطبع بإسرائيل، ومن الأمثلة على هذه الحالات: الرئيس الكونغولي الراحل “موبوتو سيسيسيكو”، و”ميليسزيناوي” في إثيوبيا، و”أسياس أفورقي” في أرتيريا،و”جون جارانج” في جنوب السودان، و”يوري موسيفيني”في أوغندا، و”بول كاجامي” في رواندا.

رابعا: تغذية نزعات الانفصال، وخاصة في الدول العربيةالافريقية، ومساندة الجماعات الإقليمية غير العربية فيها، لكن أدلة كثيرة أكدت وجود علاقات تحالفية مع قادة الجيش الشعبي لتحرير السودان بزعامة جون جارانج، منذ ستيناتالقرن الماضي، حيث كشف طرفاً من ذلك أحد قادة حركة التمرد في مذكراته، وهو “سفيريانو فولي”، الذي ذكر أنه تمتعيينه سكرتيراً إداريا في العام 1963، وأنه قُدم إلى السفارة الإسرائيلية في كمبالا، وأصبح حلقة الوصل الأساسية بين الحركة وإسرائيل، وفي عهده تم التنسيق مع إسرائيل فيما يتعلق بالتدريب والتسليح، كما تم إعداد مطار“اوبيخ” في بول، وقد أرسلت إسرائيل أعضاء من قواتها للإشراف على استلام السلاح وقامت بإرسال ضباط الحركة للخارج للتدريب. 

كما تمارس إسرائيل التحريض والتحريض المضاد بهدف تسخين أفريقيا وزرع الشقاق بين الأفارقة والعرب، كما هو الحال بين السودان وأوغندا والصومال وأثيوبيا وأريتريا،حتى أن أريتريا تحولت إلى قاعدة تضم كل ألوان الطيف المعارض وتنظيماته ضد الحكم في السودان، أما الصومال الذي يمر منذ عقود بحالة من غياب الدولة؛ فإن اللعبة الإسرائيلية تكشفت على أرضه من خلال الصراع القائم بين إريتريا وأثيوبيا داخله، ويستمر الدفع باتجاه تسخين المنطقة حيث ظهرت أزمة علاقات بين مصر وعدد من دول حوض النيل، منها أوغندا التي أعلنت انسحابها من اتفاقية مياه النيل، وامتد التسخين في نفس الاتجاه بين النيجر وتشاد، وبين الجيش الكيني والميليشيات الاسلامية في الصومال، وعادة فإن إسرائيل بعد إثارتها للأزمات تعمل على تدويلها كما حدث في أزمة دارفور، حيث كان التحرك الإعلامي المبكر لتدويل الأزمة ووصفها بأنها حرب بين العرب والأفارقة علما بأن جميع سكان اقليم دارفور من المسلمين.

خامسا: الاهتمام بالعلاقات العامة مع الشخصيات الحكومية والمعارضة في الدول الإفريقية ودعوة الزعماء الأفريقيين لزيارة إسرائيل بغرض غرس الدهشة والإعجاب بكل ما هو إسرائيلي، وتثبيت أسطورة شعب الله المختار، والدولة النموذجية، وفي هذا السياق تهتم الخارجية الإسرائيلية بتعيين مجموعة من السفراء المؤهلين تأهيلاً متميزاً ممن يمتلكون مقدرات ومهارات في نسج علاقات اجتماعية متينة، الأمر الذي يجعلهم محببين للأفارقة بحيث لا يرون فيهم عنجهية الأوروبي الأبيض. فهذه هي إسرائيل وتلك هي أساليبها وأدواتها التي تطبقها على دول القارة لتحقيق مصالحها في المنطقة، ومن أجل قطع الطريق على الدول العربية في القارة.