حكاية لم تعد تدهش أحدًا

بي دي ان |

07 فبراير 2023 الساعة 06:56م

الكاتب
- تعجب لبرودها، فدفعَته. تلفَّعَ بوشاح داكن في جوّ متقلبِ، دار هواءٌ شتوي مجنون، مثيرةً للغبار سفع الوجوه، ونفخ في الجو صقيع، الغبار لم يَعُد يُطاق، تَسرَّبَت إلى أنفه رائحةٌ غريبة وأليفة معًا، كما تشرق ذكرى ضائعة، في أعماق الماضي، ألم تُعاهِد نفسَك على تجنُّب رائحة الموج، و البارود  وكل ذكرى متفجرة دافعة صلبة، ولكن كيف؟ إنها مستمرةٌ في قتلك؛ ها هو يعود إلى صميم نفسه، الأيام  تدور ولا تحمل من واقع الحال إلا العلقم، ورائحة البارود، ولكن ماذا عن الغد والنسيان؟ ولكن ماذا أريد؟ ماذا وراء ذلك؟ كنا وما زلنا نعاني في حياتنا، ما الفائدة  في بلد هي أمُّ المآسي، فكم قاسَت وكم عانَت! هي على أي حالٍ، رغم حزنها لا تخلو من روح اللطف! نعيب طغاتنا والعيب فينا، وما لطغاتنا عيب سوانا !

  - انحصر الشعور في التحفُّز الأليم، وألقَت شمسُ الشتاء أشعةً فاترة على الوان المُزركَشة لمراكب الصيد الصغيرة متسطحة على رمال الشاطئ المملوء أحجارًا صغيرة بيضاء.. زلطًا وأصداف، حوَّل الرجل عينيه بسرعة عن أسراب طيور البحر كسحابة بيضاء  فوق سطح الماء؛ دخل المقهى أجال بصره في أنحاء المكان حتى رأى العم عشم فمضى إليه. استقبله بترحاب، وقام مادٍّا له يده فصافحه بحرارة قائلًا بهدوء: نهاركِ سعيد يا أستاذنا، تهانيَّ على مقالتك الأخيرة. أعجبتك حقٍّا؟ أعاد إعجابه وهو يجلس. وطلب قهوة وهو يبتسم ابتسامة ذات معنًى، فقال: الظاهر أنك وفِّقت أنت رجل مستقيم ونظيف، أنا مطمئن كل الاطمئنان. أهذا هو رأيك الأخير؟ حتى النهاية، أكتب .. إن كنت تحب فلسطين، الشهادة والشهداء و تحب الحياة.. أكتب. وسطعت رائحة الياسمين.

- فقال: أنا لا أبالي بعدوٍّ ما دمت أعرفه، أما الذي لم أعرفه ولم أره..! ما مضى قد مضى، يجب أن  نصدق الألم، فالقضية معروفة و لا يختفي فيها شئ، ولكني مشوقٌ إلى معرفةِ النهاية. ولكن ما الحيلة؟ فالحكاية لم تعد تدهش أحدًا، قل قولًا معقولًا. فقال: الأيام تدور ولا تحمل من باطن الواقع الا العلقم .. أيام تأكلها أكلًا وتأكل نفسك، البعض يُقطِّبون ويتبادلون الكلمات الساخطة، وغدًا سيجيء يومًا، وينطلق الرصاص مرة أخرى ويكون لرشاش والدم القول الفصل، كما رأيت صفحةَ القادم داميةً كالصفحة المنطوية، هل تستسلم لليأس؟ هذه هي الحقيقة! وما كان ينبغي أن أحلم، أو أن أكترث للحُلم إذا حلمت.

- الحق أننا لا نعرف الوحدة  ولا نريد أن نعرفها، والامل الذي طال كان حُلمًا كاذبًا، عليك أن تحقق حُلمك بنفسك، أو سوف يبقى كابوسا بلا تفسير. كحفرِ ثغرة في العظام، فالجسم الفاسد لا يخلو من الدمامل والدماء الفاسدة، و سيَتقشَّر الجلد الكالح عاجلًا أو آجلًا ثم يتساقط، فكل صدمة أشدُّ من الأولى، والماضي بكل مآسيه لن يخفِّف من قسوةِ اللطمة الحالية، حقٌّ مَن يعجبه القسوةٍ ، وعليه أن يؤدي حسابَ مئة عامًا قادمة من الخراب، نحن غير قادرة على الخروج من شرنقة الانقسام المقيت. إذا استمر الحال إلى ما لا نهاية. وضحك ضحكةً قصيرة ميتة وقال: نحن مهد الأنياب والأظافر الداخلية.

- هزَّ رأسه في رثاء وانتهز فرصة الصمت الذي تلا ذلك فقال اسمع يا بني: هناك نباتات طفيلية تتغذى بدون وجه حق، عندك بعض القائمين على إدارة الحياة السياسية غير قادرين على تسيير الأمور، الأمر الذي يجعلنا أمام أداء غير مسؤول، فقال له: ليس كل موقع  يصلح لها الهواة. هل اختفت نواياي الطيبة إلى ذلك الحد؟ يبتسم ساخرًا: لم تكن هناك أية نيَّة طيبة! وهل ثمة أمل؟ ضحكة أخرى مقتضبة، ثم قال: في ثقافة القوم لا شيء بدون مقابل، والمقابل صار عزيزاً.

- مصالح لا قِبَل لنا بها.. مصالح  ذات أنياب ومخالب تستهدف استمرار حالة الانقسام والخراب ، و إدخال الفساد و الغش والتدليس على الجانب الآخر، وشعبنا يرزح تحت سطوة سياسات الاحتلال الفاشي، وحكومة صهيونية ديمومتها الإرهاب والحروب والخراب. من ناحية، وبيروقراطية وفساد وهيمنة وتفرد السلطات المنقسمة والمتنافسة فيما بينها على وهم سلطتين ومشاريع حزبية من ناحية أخرى، لزيادة لعدوى و الشرذمة وغياب الرؤية الجامعة، صحيح أن العامل والمخطط الصهيوني هو الأكثر تأثيراً في ادامة هذا الانقسام، وليست إرادة شعب. ولا أريد أن أذكّر القارئ بما قاله شمعون بيريس، و قد اعتبر الانقسام ثالث إنجاز تاريخي للحركة الصهيونية بعد الإنجاز الأول إقامة الكيان الصهيوني عام 1948، وهزيمة حزيران العام 1967".

- ما علينا.. فلم نعد بحاجة إلى بذل جهد - بذلناه من قبل- للقول إن جزء من مخطط الانقسام  والخراب الصهيوني كما أتفق.( تكمن أهمية خطة الانفصال "عن غزة" في أنها تجمد العملية السياسية. وأنت عندما تجمد هذه العملية تحول دون قيام دولة فلسطينية، وتحول دون مناقشة قضية كل من اللاجئين والحدود والقدس. وعمليا ، فان كل هذه الرزمة المسماة دولة فلسطين ، بكل ما تتضمنه ، أزيحت كلها الى أجل غير مسمى من جدول اعمالنا. وكل ذلك بمباركة رئاسة الولايات المتحدة ، واقرار من الكونجرس بمجلسيه). دوف فايسغلاس ، الناطق باسم شارون" هآرتس". من كتاب فلسطين والتطهير العرقي.

- هذا على سبيل الحصر. حيث موضع الوجع ولكثرة ما يَعترض قضية شعبك من أحجارٍ ونُفايات، وكم غنَّيت فوق أشلاء الجُثث، وأثبتت الأيام، وهنا يتضح الهدف الحقيقي من تنفيذ واستمرار مخطط الانقسام والخراب الصهيوني،و هو السيطرة على الشعب، وإجباره على العيش بما يخدم مصالح ثالوث الفساد والقمع والخراب، أيْ نَمَط الحُكم - شبه -  حُكم والقائم على الفساد واللصوصية ونهب الثروات العامة، والمحافظة على ديمومة ذلك كله، وتلميع الأشخاص الذين يسرقون بلدهم، وتدمير قضية شعبك ومؤسساتِه.

فقال بتسليم: لا أنكر ذلك. فالحكاية لم تعد تدهش أحدًا؟! حلَّ صمت غير قصير، ثم سأله بنبرة جديدة وهو يقوم عن المائدة: لا فكرةَ تخطر إلا عن مصالح أو انتقام، لا وحدة، لا أرض ، لا تواصل لا حياة ولا استقرار؛ ولا إبقاء على حق ، ضاع كل شيء في في سبيل الرخص الرهيب.؟ واكفهرَّ وجهه لحظات، ثم انبسطت صفحته رويدًا فقال: أعلم ماذا يقول صمتُكِ فالعبارة الأخيرة كالرصاص والفأس، غير قابلة للتجاهُل؟! فالقضية لم تعد تدهش أحدًا.