النقد الذاتي

بي دي ان |

05 يناير 2021 الساعة 05:38م

كثير هي الحقول المعرفية التي خاض فيها الإنسان قديماً وحديثاً، يكتشف أسرارها ومداخلها، كلياتها وجزئياتها، من أجل الوصول إلى المعرفة اليقينية, ورغم كل الاكتشافات الحديثة والمتطورة إلا أنه من المُتيقن به أنه لم يُكتشف إلا القليل القليل من العلوم, وعلم النفس الداخلي هو أحد العلوم المجهولة والتي لم يستطع العلماء الولوج إلى غمارها أمر أشبه بالمستحيل, ووعي الإنسان بذاته مسألة في غاية الغموض والخطورة, ولا يقوى عليها إلا فئة قليلة من البشر, امتازهم الله بخصائص فريدة, جعلهم الأقدر على التأثير والتغيير في الأفراد والمجتمعات.
إن أعلى وأرفع أنواع الوعي هو وعي الذات, فالبشر اعتادوا وما يزالون عند وقوعهم في المشاكل اتهام الآخرين, وتنزيه أنفسهم عن الخطأ, فنفسه التي بين جنبيه مستحيل أن تخطئ؛ فسائق السيارة الذي كاد أن يصطدم به عندما تجاوزه هو المخطئ. وعندما فُصل من عمله؛ فإن رب عمله هو من ظلمه واستبد به. وأن فشله في زواجه يعود إلى زوجته التي لا تفقه عن الزواج والمسؤولية شيئاً, وهكذا ... يخلق الإنسان لنفسه مبرراً تلو الآخر حتى يصل إلى مرحلة من المراحل إلى تقديس ذاته, واضفاء العصمة عليها, واحاطتها بكامل الأفكار والتبريرات والآيات التي تحميه من توجيه اللوم لنفسه, ولم يقتصر القاء اللوم على الآخرين على الأفراد فقط؛ بل امتد إلى الجماعات والأحزاب والطوائف والمذاهب والمجتمعات والدول. فبدأت المجتمعات والدول تعزو جهلها, وتخلفها, وعدم مواكبتها للسلم الحضاري إلى العوامل الخارجية كالاستعمار, والأطماع الخارجية, حتى وصلوا في نهاية المطاف إلى نظرية المؤامرة. التي استخدمت لأول مرة في مقالة اقتصادية عام 1920م وتم تداولها عام 1960م, وتمت اضافتها إلى قاموس أكسفورد عام 1997م, حيث يقول مايكل باركون: "تعتمد نظرية المؤامرة على أن الكون محكوم بتصميم ما, وتتجسد في ثلاثة مبادئ: لا شيء يحدث بالصدفة, ولا شيء يكون كما يبدو عليه, وكل شيء مرتبط ببعضه". لذلك هناك ثلاث تصنيفات لنظرية المؤامرة:
1- نظرية المؤامرة للأحداث: وهي تشير إلى أحداث محددة ومعروفة بشكل جيد, كاغتيال الرئيس كنيدي, وأحداث الحادي عشر من سبتمبر, وانتشار مرض الإيدز.
2- نظرية المؤامرة المنظمة: ويعتقد فيها أن المؤامرة لديها أهداف واسعة؛ كإحكام السيطرة على العالم بأسره, مثل القول بوجود منظمة واحدة شريرة تخطط للاستيلاء على العالم, مثل: الماسونيون الأحرار, او الشيوعيون, أو الكنيسة الكاثوليكية.
3- نظرية المؤامرة الفائقة: والتي تعتمد على القول بوجود قوة شريرة بعيدة وقوية, موجودة في أعلى الهرم, لها عين واحدة. تحكم العالم وتوجهه.
إن نظرية المؤامرة سمة سائدة في الثقافة والسياسة العربية, فهي تلقي باللوم على الكوارث الاقتصادية والاجتماعية, وتعطي هذه النظريات الشعور بالرضا من خلال إلقاء اللوم على مجموعة لا ينتمي إليها مُدعي ومُصدقي هذه النظرية؛ وبالتالي ما يعفيه من المسؤولية الأخلاقية أو السياسية أو ... في المجتمع.
يقول الصحفي روجر كوهن في جرية النيويورك تايمز: "إن العقول الأسيرة تلجأ إلى نظرية المؤامرة؛ لأنها الملاذ الأخير للضعفاء. إذا لم تستطع تغيير حياتك الخاصة فلا بد من وجود قوى كبرى تسيطر على العالم". 
في اللحظة التي يتم فيها التوقف عن إلقاء اللوم على الآخرين, وتحميل أنفسنا جزءاً من المسؤولية الفعلية فيما يحدث لنا؛ عندها فقط نبدأ بزرع بذرة الانتاج, والمشاركة الفعالة في بناء الإنسان أولاً, ثم المجتمع ثانياً.
لذلك ضرب الله لنا في قصة آدم وإبليس نموذجين, هما النموذجان لكل تجليات الوجود الإنساني, فإبليس اتهم الآخر, وأخرج نفسه من المسؤولية, واتهم الله بانه السبب وراء خطأه, والحال التي وصل إليها من اللعن والطرد, فقال:  بِمَا أَغْوَيْتَنِي, فاعتبر إبليس نفسه كاملاً, مقدساً, معصوماً, محال أن يخطئ بنفسه, فاللوم كل اللوم على الله الذي مهد له سبل الغواية, بينما آدم عليه السلام اعترف بخطأه, ونقصه, وقام بمراجعة ذاته, وكانت زوجته السند والداعم له على خلاف الروايات, فقالا كلاهما: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا, فحواء عليها السلام كانت خزان الرحمة والدفء, ولعبت دوراً مصيرياً كآدم عليه السلام في إنقاذ البشرية؛ خلافاً للأسطورة التي تقول: أن حواء هي التي أغرت آدم بالآكل من الشجرة المحرمة. وها هو نبي الله يونس عليه السلام عندما جلس في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل, وظلمة البحر, وظلمة بطن الحوت, لم يلقِ باللوم على الآخرين, ولا على ظروفه, بل توجه باللوم إلى نفسه فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ, لقد أغفل الجميع أفراداً وجماعات ودول عملية النقد الذاتي, وتغافل الناس عن التنبيه القرآني للناس بان السبب الرئيسي لما هم فيه هو: ظلم النفس, قال تعالى:  فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
إن عالمنا العربي والإسلامي لا يكف عن توجيه اللوم إلى الآخرين, وتوزيع اللعنات في كل اتجاه, وغير مستعد أن يقف ولو للحظة واحدة أمام نفسه ليصارحها بالحقيقة. إن هذا التوجه في التفكير يخترق كل طبقات المجتمع بدءاً من الطبقة المثقفة التي حاصلة على درجات عليا (دكتوراه وبرفسور), وانتهاءً بالأفراد البسطاء, والطلاب على مقاعد المدرسة, فالطالب الذي رسب في الامتحان, رسب في الامتحان لأن المعلم وضع أسئلة صعبة, أو أن ذلك يعود إلى حظه السيء. والمجتمع المنهار سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً سببه مؤامرة كونية على البلد, وليس فساد رجالاته, وقياداته, وتحويل شركات الوطن إلى شركات خاصة, لبعض المتنفذين وأصحاب القرار. إن إلقاء اللوم على الآخرين يؤدي إلى مرض النفس بالكراهية, ثم تتحول هذه الكراهية مع مرور الوقت إلى حقد أعمى دفين يقتل الأخضر واليابس, ويُشعل روح الانتقام, وتكون الحرب الأهلية الخفية قد بدأت؛ ولا تحتاج إلا على فرصة لاندلاعها.
إن إمكانية النقد الذاتي, ومراجعة المواقف من البداية من أصعب الأمور التي تواجه الافراد على الإطلاق, والقدرة على الاعتراف بالخطأ, والاعتذار, والتوبة هي أول الخطوات لتحقيق الأمن والسلم الفردي والمجتمعي. وأن تربية الافراد على مواجهة أنفسهم, والمسارعة نحو التسامح والمغفرة, والتماس العذر, وتبرير تصرفات الآخرين, وإحسان الظن بهم, وقبولهم كما هم, ومحبتهم رغم كل الاختلافات معهم؛ هي الخطوات الأولى لاكتشاف الجواهر المخبأة في كل واحد فينا من القيم الإنسانية الرائعة  التي تجعلنا نرى الآخر في صورة جديدة, جميلة, ومشرقة, وتقبله كما هو, مما يؤدي إلى احترام متبادل, ومحافظة كل واحد على الآخر. اما عقلية اللوم والتآمر, والاغتيال, وقتل الآخرين؛ فإنها ستحمل تدمير الذات بنفس الوسائل والأدوات.