ارتدادات الربيع العربي

بي دي ان |

24 ديسمبر 2020 الساعة 05:20م

مازالت ذكرى البوعزيزي ماثلة في الأذهان العربية بعد عقد من الزمن، كيف لا وهو مشعل شرارة السهول العربية من تونس إلى القاهرة إلى المغرب والآردن وسوريا وليبيا. نعم كان إحتراق جسد طارق الطيب محمد البوعزيزي في ال17 من كانون اول / ديسمبر 2010 أمام ولاية سيد ي بوزيد التونسية إيذانا بإشعال النيران في العديد من عواصم ومدن العرب، لإن المخاض كان يعتمل في اوساط الجماهير العربية الساخطة والرافضة لإنظمة الحكم، ووصل الذروة في اوساط الملايين الجائعة والمسحوقة والمكلومة، وفاقدة الأمل من الديكتاتوريات وأنظمة الحكم العربية المهزومة والتابعة لسوق الغرب الرأسمالية.
صحيح ان الثورات العربية، التي اسقطت عروش العديد من الأنظمة تم الإستحواذ عليها، وإغتصابها من قبل أدوات الولايات المتحدة والغرب عموما ودولة الإستعمار الإسرائيلية، ونَّصبوا حليفتهم جماعة الإخوان المسلمين عليها، المكلفة رسميا منهم لتنفيذ مخطط التفتيت والتمزيق للشعوب والدول العربية، وشريكهم الرديف للحركة الصهيونية في الحؤول دون نهوضهم وتطورهم الديمقراطي والإقتصادي، وتبديد المشروع القومي العربي. ولهذا كانت الجماعة أولا جاهزة، وثانيا الأكثر حضورا وتنظيما وقوة في الساحات العربية ذات الصلة، ثالثا منحتها إدارة اوباما كل وسائل الدعم، وهيأت لها سبل الوصول لسدة الحكم في العديد من الدول؛ رابعا لتشويه شكل ومحتوى واهداف الثورات أنتجت اميركا والغرب من رحمها قوى تكفيرية بعشرات المسميات والعناوين من أبرزها "داعش" و"النصرة" و"جند الشام" ... إلخ خامسا غياب شبه كلي لقوى التغيير العربية، وان وجدت بعض النخب والقوى، فوجودها لم يكن ذات شأن. لكن تلك الثورات لم تنتهِ، ولم تمت روحها، ومازالت حية من خلال الإرتدادات الزلزالية المتوالية والمتواترة في العديد من دول الوطن العربي.
وتحدثت هنا أكثر من مرة عن الموجة الثانية في كل من العراق ولبنان والسودان وتونس وليبيا وفلسطين، بيد ان النظام السياسي العربي تمكن حتى اللحظة من تطويقها، وكبح آفاقها، ودس أنصاره بين صفوفها. غير ان عدم تمكنها من تحقيق الإنعتاق الكامل من أنظمة البؤس العربية والعدو الصهيو اميركي الاخواني، وفشلها في تحقيق اهدافها السياسية والإجتماعية والثقافية والقومية، لا يعني هزيمتها بالمعنى المطلق، لإن جمرها مازال متقدا في اوساط الطبقات والشرائح والفئات الإجتماعية المسحوقة والمتوسطة وبنسب متفاوتة في الدول.
إذاً الصراع لم تنطفىء نيرانه بين قوى الثورة وجماهيرها من جهة وبين قوى الثورة المضادة الحاكمة والمستبدة والمستسلمة من جهة اخرى. وبفعل إختلال موازين القوى لصالح أنظمة الردة والفساد، وغياب وخمول قوى التغيير، وعدم نضوجها الفكري والسياسي، وترهلها الكفاحي، هيأ الفرصة امام العديد من الأنظمة للتماهي الطوعي و"الجبري" مع مصالح العدو الصهيو أميركي بعد صعود الرئيس دونالد ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة مطلع عام 2017، الذي فرض عليها جميعا دفع الجزية وعلى الملأ مقابل حماية كراسي الحكم، وساقها كالقطيع إلى دوامة التطبيع الإستسلامي، وبيع الأصول الوطنية والقومية في مزاد اسواق الغرب، ووفق معايره. فسقطت كل اوراق التوت عن عوراتها، وزالت كل المساحيق والأقنعة عن وجوهها الكالحة، فاسقطت من حساباتها كل القيم الوطنية والقومية الشكلية والناظمة لسياساتها طيلة عقود خلت، وإرتدت إلى منابتها الفاسدة والرخيصة والتابعة للغرب.
هذا التحول النوعي في سيرورة وصيرورة النظام الرسمي العربي أدى إلى إنهيار كامل للبناء الفوقي الرسمي العربي، واسدل الستار على حقبة تاريخية كاملة من تاريخ العرب المعاصر، بغض النظر عن التباين بين هذا او ذاك النظام. مما عمق الإنهيار، وزاد من حدة أزمة النظام العربي، وضاعف من وتيرة اشكال الصراع مع قوى الثورة. وهو بالضرورة يشكل حافزا إضافيا للثورات العربية، التي قد تتفجر مجددا بعد إنكشاف ظهر انظمة الهزيمة والخيانة. لا سيما وان الغالبية منها دخلت مرحلة الإفلاس السياسي والمالي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي والأخلاقي، ولا يقتصر الأمر على لبنان لوحده، بل ان انظمة البترو دولار أكثر إفلاسا وعجزا، ومن يراجع مديونيتها الداخلية والخارجية يلحظ بام العين حجم وعمق الإنحدار المريع، الذي وصلت إليه تلك الأنظمة.
الربيع العربي في ذكراه العاشرة، كان ربيعا حقيقيا بالأساس، وثورة الجماهير صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير ذات ابعاد سياسية وإجتماعية اصيلة، بيد ان قاطرة الثورات لم تكن على مستوى الحدث، لا من حيث التنظيم والبرامج والقوة والآليات، مما اتاح لإعدائها الإنقاض عليها وركوب صهوتها. والثورات كما الحروب سجال فيها النصر والهزيمة، والمد والجزر، والصعود والهبوط، وعدم تمكنها من التغيير حتى الآن، لا يعني انها إنتهت، أو استسلمت، انما هي تعيش حالة المخاض مجددا، قد لا يطول إنتظار إنفجاره، لإن كل عوامل القهر والتفقير والتجويع والإستبداد والظلم والفساد والجريمة والإستسلام الكامل أمام أعداء الأمة تتعاظم، وكلها عوامل حاملة للثورة. لذا لم تفقد الجماهير وقواها الحية الأمل بإستعادة زمام المبادرة للتقدم نحو اهدافها الإستراتيجية. ولنتذكر دوما، ان يوما من ايام الثورات بمئة عام من التغيير.
[email protected]
[email protected]