أيها الاشقاء غادروا المستنقع

بي دي ان |

17 يونيو 2022 الساعة 12:58ص

تاريخ الأمم والشعوب، الامبراطوريات والدول لا يسير بخط مستقيم، رغم انه يتقدم بخطى ثابته للامام، بيد انه يسلك طرقا لولبية صعودا وهبوطا، ومتعرجة وبانعطافات حادة وخطرة غالبا، تحمل في ثناياها انقلابات دراماتيكية تتجاوز المحاكاة الإنسانية في لحظة بعينها، تهدم ركائز ما هو قائم، وتقيم معادلات ومركبات نوعية لم يألفها الانسان المعاصر او لم يعتقد للحظة بإمكانية حدوثها، جدران وحدود ودول وتحالفات وثقافات تندثر تنهار، وتنشأ بدائل هزلية او تراجيدية افتراضية غير مألوفة، او لا تستقيم مع معادلات ومنطق سابق أو مأمول.
هذا هو التاريخ بعظمته وفجوره، بمنطقه ولا معقوليته، بمآسيه وخطاياه وباشراقاته وارهاصاته الناهضة مع كفاح وحرية الشعوب. فلا ماض تليد باق، ولا حاضر او مستقبل يأت وفق رغبات وتمنيات الشعوب والأمم الا بمقدار ما تكون مواكبة لحركة التاريخ، التي لا تتوقف نهائيا. ويخطىء من ينام على امجاد الماضي، او يستشرف في قراءته آفاق المستقبل على معادلات زمن ولى، حمل معه حصاد مرحلة بعينها بمرها وحلوها، بانجازاتها وعثراتها ومآسيها.
ومن التجريد إلى الملموس، ومع اجراء مقاربات بين تاريخ العرب المعاصر والحاضر والمستقبل، نجد بونا شاسعا وعميقا، وتحولات سياسية واقتصادية وثقافية ودينية بين ما كان عليه العرب من أواسط القرن الماضي مع صعود حركة التحرر الوطني، وانتصار ثوراتها في مصر وسوريا والعراق واليمن والجزائر وليبيا والسودان والصومال وفلسطين... الخ والشعارات التي سادت، ونظمت سيرورة وصيرورة تلك الشعوب، والإنجازات الإيجابية التي تحققت، رغم كل النواقص والهزائم والنكسات (التي اصلت لكل الاردادات الحاصلة)، بقي الناظم لمعايير وقيم ومرتكزات العرب بقضهم وقضيضهم الوطنية والقومية واضحة ومحددة، وتنسجم مع الخطاب الوطني والقومي العام إلى بداية السقوط المعلن مع التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد 1979 المصرية الإسرائيلية، والتي مهد لها السادات بزيارة دولة التطهير العرقي الإسرائيلية في نوفمبر 1977، وتفاقمت ازمة العرب أكثر فاكثر مع مطلع الالفية الثالثة، حين ارتضوا المشاركة مع الحلف الانكلو سكسوني الغربي الرأسمالي الثلاثيني (30 دولة) في الأنقاض على العراق عام 2003، وما تلا ذلك من تراجعات وانكسارات عميقة في مركبات النظام الرسمي العربي، وتتالت الدحرجة العربية نحو مزيد من التشظي والتمزق أولا بما حملته "ثورات الربيع العربي" الأميركية، وثانيا حين تخلوا كليا عن محددات الامن القومي العربي، وعندما نفضوا أيديهم من قضية العرب المركزية، وغوصهم في مستنقع التطبيع المجاني مع دولة إسرائيل الاستعمارية، وذهابهم ابعد من ذلك راهنا، بالاستعداد لاقامة حلف او اتفاقية تعاون امني - دفاعي بين تسع دول عربية وإسرائيل المارقة والخارجة على القانون، كما تسميها الإدارة الأميركية الجالية، وفق ما نشرته القناة ال (12) الإسرائيلية يوم الخميس الموافق 9 حزيران الحالي.
وتعمق القناة (12) الإسرائيلية قراءتها للاتفاقية المزمع توقيعها بين نصف أنظمة العرب والدولة التي وجدت لتضرب وتهدم أحلامهم وطموحاتهم والمشروع القومي العربي النهضوي، وتحيلهم الى دول فاشلة، وهويات ممزقة، وتنهب خيراتهم وثرواتهم، وتغتال كل ملمح وطني او قومي في دولهم، فتقول، فإن المعنى هو ان إسرائيل ستتعاون وتنسق الإجراءات العسكرية والأمنية مع العديد من الدول، التي لا تربطها بها علاقات سياسية، وحدث ولا حرج مع الدول التي تربطها باتفاقيات ومعاهدات سياسية وامنية واقتصادية.  
وطبعا لم تكن فكرة الحلف الأسود العربي الصهيوني الجديد جديدة، انما هي امتداد طبيعي لصفقة القرن، التي تبنتها إدارة الرئيس الأميركي السابق ترامب، وهو ما يدلل مجددا، ان الدولة العميقة في الولايات المتحدة طوعت اهل النظام الرسمي العربي وفق مشيئتها وأهدافها لتعويم دولة النبت الشيطاني الإسرائيلية في المنطقة، وعلى حساب مصالح وحقوق العرب، كل العرب وليس الفلسطينيون فقط، وان كانوا هم رأس الحربة في الاستباحة الإسرائيلية الأميركية. والنتيجة الجلية، والتي لم يكن انسانا عربيا يعتقد يوما بحدوثها، انتهاء حقبة من تاريخ العرب الحديث بالسقوط الفاجع في مستنقع العدو الصهيو أميركي، وبناء منظومة سياسية جديدة، وتحالفات غير مسبوقة، وعلى أرضية الكذبة الأميركية الإسرائيلية الكبيرة "السلام الابراهيمي" او "الدين الابراهيمي" الذي لن تقوم له قائمة حتى لو وقفت وراءه اميركا وكل العالم السفلي في الغرب الانكلو سكسوني. وهذا ما أكده مائير بن شبات، رئيس مجلس الامن القومي الإسرائيلي السابق يوم السبت الماضي الموافق 11 حزيران الحالي مع صحيفة "غلوبس" العبرية، عندما قال :ان منطقة الشرق الأوسط تمر بمرحلة تنظيم جديد، ربما فريدة من نوعها، تطمس فيها الحدود بين دول المنطقة نفسها.
مع ذلك هناك إمكانية راهنة للاشقاء العرب، الذين تساوقوا مع هذا الخيار المميت، والقاتل ان يغادروا المستنقع ان أرادوا ذلك، والتحولات العالمية التدريجية، التي باتت ملامحها تتمظهر نسبيا في المشهد الدولي تسمح لهم بالمناورة والخروج من النفق المعتم. وإعادة ترتيب شؤون بيتهم العربي بما يتوافق وتاريخهم ومصالحهم وحقوقهم. فهل يفعلوها، وينقذوا رؤوسهم من مقصلة الحلف الأسود الجديد، ويعيدوا الاعتبار لهوياتهم الوطنية والقومية؟
[email protected]
[email protected]