إندونيسيا وإسرائيل.. واللعب تحت الطاولة

بي دي ان |

14 ديسمبر 2020 الساعة 02:33ص

يبدو أن إدارة ترامب ونتنياهو تراهنان الآن على توقيع اتفاقية تطبيع مع إندونيسيا أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، وقد مهد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لذلك بزيارة وجيزة إلى جاكرتا في 29 تشرين الأول(أكتوبر)، أجرى خلالها محادثات مع الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، حيث تتمتع جاكرتا بأهمية من نوعٍ آخر في أولويات السياسة الخارجية لإدارة ترامب، وهي أولوية اكتسبت أهمية متزايدة في الفترة التي سبقت الانتخابات الأمريكية. 
تعد إندونيسيا واحدة من ثلاثين دولة لا تعترف بإسرائيل، وواحدة من ثلاث دول في جنوب شرق آسيا، التي تبنّى قادتها معاداة السامية، ولأندونيسيا تاريخ من البوادر غير المتسقة واللعب من تحت الطاولة مع إسرائيل، مما يزيد من إمكانية الاتجاه نحو التطبيع حتى لو لم يكن وشيكاً، لأن المشاعر الإندونيسية تجاه إسرائيل سلبية للغاية، ويعود هذا جزئياً إلى تاريخ إندونيسيا الحديث، فقد تبنّى سوكارنو، أول رئيس للبلاد، سياسةً خارجية مناهضة بشدة للاستعمار، وانضم ورؤساء آخرين لتأسيس "حركة عدم الانحياز" في عام 1961، ومنع إسرائيل من المشاركة في دورة الألعاب الآسيوية عام 1962 بناءً على طلب من الحلفاء العرب، ثم جاء خليفته سوهارتو فغيّر مسار السياسة الخارجية الإندونيسية، وأصبحت البلاد منذ ذلك الحين أكثر ديمقراطية وشريكاً أوثق مع الولايات المتحدة والغرب الأوسع نطاقاً، ومع ذلك، استمر اغترابها عن إسرائيل.
في المقابل، قامت إندونيسيا خلال العقود الأخيرة بعدة مبادرات أعطت إسرائيل الأمل في إمكانية التقارب بينهما، وأول اختراق كبير كان بعد توقيع "اتفاقيات أوسلو" عام 1993 حين قام رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بزيارة سوهارتو في منزله في جاكرتا، وفي العام التالي، سافر عبد الرحمن وحيد، رئيس جمعية "نهضة العلماء" الإسلامية، ورئيس إندونيسيا لاحقاً، إلى القدس ليشهد توقيع معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن، وزار إسرائيل ثانية في عام 1997، ودعا إلى التقارب بين العرب واليهود حتى وفاته.
تبنّى الرئيس سوسيلو بامبانج حل الدولتين للمرة الأولى عام 2012، مما أثار احتمال تطبيع جاكرتا العلاقات، وفي وقت لاحق، تجاوز يوسف كالا الحدود بلطف بدعوته إلى التعامل مع إسرائيل أثناء شغله منصب نائب الرئيس، وفي عام 2014، أعلن أن إندونيسيا "لا يمكن أن تكون وسيطاً إذا كنا لا نعرف إسرائيل.. يجب أن نكون قريبين من كل من إسرائيل وفلسطين"، وفي عام 2018، تحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي العام نفسه، سافر يحيى ستاقوف رئيس جمعية "نهضة العلماء" إلى إسرائيل واجتمع بنتنياهو، ومن حين لآخر، تكون هذه المبادرات أكثر رسمية، ففي عام 2008، وقّعت منظمة "نجمة داود الحمراء" الطبية الإسرائيلية ونظيرتها الإندونيسية اتفاقية تعاون في تل أبيب شهدها نائب رئيس منظمة "المحمدية"، ثاني أكبر منظمة إسلامية في إندونيسيا.
بصرف النظر عن افتقارهما للعلاقات الدبلوماسية، يتمتع البلدان بعلاقة اقتصادية محدودة، ففي عام 2018، بلغ حجم التجارة الثنائية بينهما حوالي 100 مليون دولار على الرغم من القيود الإندونيسية الكبيرة على التجارة المباشرة مع إسرائيل، وبالمثل، يقوم عدد متزايد من السياح الإسرائيليين بزيارة إندونيسيا سنوياً على الرغم من القيود المفروضة على التأشيرات، والتي يجب عليهم الحصول عليها عن طريق سنغافورة، وبالمثل، يزور عشرات الآلاف من المسلمين والمسيحيين الإندونيسيين الأماكن المقدسة في إسرائيل كل عام، ووفقاً لبعض التقارير، انخرطت الحكومتان في تعاون أمني غير علني على مر السنين، وغالباً ما يُنظر إلى السفير الإسرائيلي في سنغافورة على أنه مبعوث غير رسمي إلى جاكرتا.
ومع ذلك، من المرجح أن تمنع الاعتبارات السياسية المحلية دون لحاق إندونيسيا بمسار التطبيع في المستقبل القريب، فقد انتقدت بعض الجماعات الإسلامية المحلية الرئيس ويدودو، لكونه غير محافظ بما فيه الكفاية، وزاد حذره فيما يتعلق باليمين الديني مع إدانة عمدة جاكرتا، باسوكي بورناما، وهو مسيحي من أصل صيني وأحد حلفائه السياسيين، بتهمة التجديف في عام 2017، وعندما كان الرئيس الإندونيسي يخوض معركة إعادة انتخابه في عام 2019، كان بحاجة إلى نائب رئيس جديد يحل محل جوسوف كالا الذي وصل الحد الزمني للخدمة في هذا المنصب، فاختار لهذه المهمة رجلَ دين مسلماً محافظاً هو رئيس المجلس الأعلى السابق لجمعية "نهضة العلماء" معروف أمين الذي شهد ضد عمدة جاكرتا، على الرغم من أنه أعرب لاحقاً عن أسفه للقيام بذلك.
وقد يعتبر الرئيس ويدودو وغيره من السياسيين الإندونيسيين أن تكلفة كتم المشاعر الشعبية المعادية لإسرائيل باهظة، وربما تكون أعلى مما هي عليه في العديد من الدول العربية لأن إندونيسيا دولة ديمقراطية، وفي الوقت نفسه، تَعتبر جاكرتا أن التكلفة الجيوسياسية للمعارضة العلنية لإسرائيل متدنية نسبياً، خاصةً لأنها تستطيع أن تجني بعض فوائد التعاون مع حكومة القدس من دون الاعتراف رسمياً بإسرائيل، وأدت هذه العوامل إلى بروز ظاهرة غير متوقعة، وهي أن إندونيسيا ودول أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط غالباً ما تكون أكثر تشدداً في معارضتها للتطبيع من خصوم إسرائيل العرب السابقين، وإذا وضعنا المصالح البديهية جانباً، يبقى التطبيع على الأرجح احتمالاً بعيداً قد لا يتحوّل إلى حقيقة بضربة واحدة، وقد تكون الخطوات التدريجية هي الأكثر واقعية مثل تخفيف القيود الاقتصادية والسياحية، والتي قد يكون من الصعب على السياسيين الإندونيسيين تبريرها على أسس عملية.

• خبير متخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية