خلفيات الرؤية الكيسنجرية للحرب

بي دي ان |

05 يونيو 2022 الساعة 12:09ص

قبل الولوج لرؤية الديبلوماسي الأميركي المخضرم، هنري كيسنجر، الذي يقارب عمره المائة عام، ومازال حاضر الذهن وقادرا على الفعل السياسي والديبلوماسي والمعرفي من خلال مشاركاته في المنتديات الأميركية والدولية، وأيضا عبر نتاجاته الفكرية السياسية، التي بلغت حتى الان 18 كتابا، اثنا عشر منها تتعلق بالديبلوماسية، واعتقد ان من اهم كتبه، هي اطروحته للدكتوراه بعنوان "السلام، والشرعية والتوازن" والذي صدرت ترجمته العربية بعنوان "السلام المفقود"، والذي افرده للحنكة السياسية لميترنيخ، وزير خارجية الإمبراطورية النمساوية المجرية، المهندس الرئيسي لمؤتمر فيينا وما تمخض عنه من نتائج 1815، والذي بنى ركائز السياسة الدولية لاربعة عقود انذاك.
تولى كيسنجر مهاما مركزية في إدارة الرئيسين نيكسون وفورد نهاية الستينيات وعقد السبعينيات من القرن الماضي منها مستشار الامن القومي الأميركي، ووزير الخارجية، ولعب دورا مهما في سياسة الانفراج الدولي مع الاتحاد السوفياتي السابق، وساهم يدور بارز في تجسير العلاقات الأميركية الصينية. وكان صاحب باع طويل في تفكيك المنظومة العربية الرسمية بعد حرب أكتوبر 1973، وعراب العلاقات المصرية الإسرائيلية زمن الرئيس الراحل أنور السادات، مع ان زيارة السادات لإسرائيل 19 نوفمبر 1977 تمت عشية خروجه من الدائرة الرسمية، ومع نجاح الرئيس كارتر آنذاك في الانتخابات. كما كان له أدوار بارزة في العديد من الملفات الدولية منها، الملف الفيتنامي والانقلاب في تشيلي، وفي الانقلاب الارجنتيني، وفي الملف الباكستاني البنغلاديشي وغيرها.
كيسنجر قدم خلال الفترة القليلة الماضية رؤية للحل السياسي للحرب في أوكرانيا التي مضى عليها حتى الان مائة يوم تقوم على التالي: أولا حياد أوكرانيا، كونها تقع في دائرة النفوذ الروسي، ولانها تقع في منطقة حساسة بين روسيا والغرب؛ ثانيا اخراج روسيا من دائرة العداء من قبل الولايات المتحدة والغرب، باعتبارها جزءا من أوروبا؛ ثالثا الحؤول دون التحالف الروسي الصيني، الذي يشكل تهديدا للغرب والمعادلة السياسية الدولية القائمة.
من الواضح ان هذا الاقتراح لم يجد آذاناً صاغية على الأقل في الإدارة الأميركية وبريطانيا وكندا وأستراليا والرئاسة الأوكرانية وفي أوساط القيادات الاوروبية الشرقية، بيد انه قد يكون لقي القبول عند بعض الغرب الأوروبي، الذي لا يريد استعداء روسيا الاتحادية لاكثر من عامل أولا حاجتهم للغاز والنفط الروسي والقمح والشعير. فضلا عن الحجم الكبير للاستثمارات الأوروبية في روسيا، والذي يقارب ال400 مليار يورو؛ ثانيا كون روسيا تقع داخل حدود القارة العجوز؛ ثالثا لان اتساع رقعة الحرب تؤثر تأثيرا مباشرا على أوروبا كلها؛ رابعا لادراك هذا البعض الأوروبي اخطار المخطط والسياسة الأميركية، وضمنيا يرفض الخيار الأميركي. رغم انه تورط الى حد بعيد في مستنقع سياسة البيت الأبيض.
كما ان بعض أوروبا الغربية بقدر ما يحرص على التحالف مع اميركا، بقدر ما يريد ان يخرج ويتحرر من تحت العباءة الأميركية، ويسعى البعض كالمانيا لتصفية حساب نتائج الحرب العالمية الثانية مع الولايات المتحدة. ومع ذلك استفادت تلك الدول من نتاائج الحرب القائمة من زاوية الغاء القيود المفروضة عليها في حقل التسلح، وزادت مباشرة حصة الانتاج العسكري والتسلح في موازناتها، وهو ما يمنحها الفرصة لاعادة الاعتبار لترسانتها الحربية بالتوازي مع تطور وتعاظم قوتها الاقتصادية.
واعتقد ان الدكتور الشرير، كما يصفه العديد من أصحاب الرأي في الولايات المتحدة وأوروبا على حد سواء، أراد من اقتراحه ان يستعيد دور ميترنيخ (او ميترنيش) في القرن التاسع عشر. غير ان الظروف والمعادلات السياسية القائمة وواقع كيسنجر الراهن لا يسمح له بلعب ذلك الدور. مع ان اقتراحه للحل يخدم المصالح الحيوية الأميركية والأوروبية، كونه يطمح لابقاء مقاليد السياسة الدولية بيد صانع القرار في واشنطن، والالتفاف في ذات الوقت على روسيا، ومنع التقارب الروسي الصيني. الا ان عقارب الساعة تجاوزت الرؤية الكيسنجرية، كون إدارة بايدن انتهجت تكتيكا واستراتيجية مغايرة، وكل يوم يمر على الحرب في أوكرانيا، ومع ازدياد حجم العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، التي تشرف عليها الإدارة الديمقراطية متعددة الاشكال والاتجاهات يشي بأن الصراع المحتدم يتجه نحو آفاق غير محمودة، ولوحة النظام العالمي الجديد تتمظهر كل يوم اكثر فأكثر. والمستقبل المنظور يملك الجواب على تداعياته.
[email protected]
[email protected]