استَيقَظَتْ رَشا مِنْ نَومِها السّاعَةَ السّادِسَةَ صَباحًا، وَتَوَجَّهَتْ مُسرِعَةً إِلى المَطبَخِ لِتَحضيرِ قَهوَةِ الصَّباحِ لَها وَلِزَوجِها المُوَجِّهِ التَّربَوِيِّ زِيادٍ، ثُمَّ لِتَعُدَّ وَجبَةَ الفَطورِ مَعَ الحَليبِ لِزَوجِها وَلِأَولادِها قُصَيٌ وَعُدَيٌ وَعَلياءُ.
- ما بِكِ يا رَشا اليَومَ؟ أَراكِ حَزينَةً وَكَأَنَّكِ تَحمِلينَ هُمومَ الدُّنيا كُلَّها فَوقَ رَأْسِكِ.
- لا شَيءَ يا زِيادُ، وَلكِنْ أَشعُرُ بِانقِباضٍ شَديدٍ في قَلبي يَكادُ يُمَزِّقَني. أَرى السَّماءَ تَبكي وَالأَرضَ تَبكي وَجَميعَ النّاسِ يَبكونَ وَلا أَدري أَوْ أَعلَمُ ما هُوَ السَّبَبُ.
- هُوَ بِالتَّأْكيدِ كابوسٌ يا عَزيزَتي. استَعيذي بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ وَهَيّا لِنَأْكُلَ القَليلَ مِنْ طَعامِ الإِفطارِ. يَجِبْ أَنْ تَسرِعي في ارتِداءِ مَلابِسِكِ بَعدَ الفَطورِ، وَأَنا سَأُحَضِّرُ الشَّطائِرَ لِلأَولادِ فَلا تَقلَقي.
- لا يا زِيادُ، إِنَّهُ لَيسَ كابوسًا. انظُرْ، إِنَّ دُموعي تَنهَمِرُ دونَ سَبَبٍ، وَقَلبي ما زالَ مَقبوضًا. حَسَنًا، يَجِبُ أَنْ نَتَناوَلَ أَوَّلًا القَليلَ مِنْ طَعامِ الفَطورِ، ثُمَّ سَأَذهَبُ لارتِداءِ مَلابِسي.
     وَرَكِبَتْ رَشا بِجانِبِ زَوجِها في سَيّارَتِهِ. وَصَلَ الأَولادُ إِلى مَدرَسَتِهِمْ، ثُمَّ أَوصَلَها زِيادُ إِلى عَمَلِها. إِنَّها تَعمَلُ مُذيعَةً لِنَشرَةِ الأَخبارِ في مِذياعِ فِلَسطينَ. دَخَلَتِ المَبنى، وَلِأَوَّلِ مَرَّةٍ في حَياتِها، رَأَتِ المَبنى كُلَّهُ مَجَلَّلًا بِالسَّوادِ.
- ما بِكِ با رَشا؟ أَراكِ اليَومَ مُتَوَعِكَةَ المِزاجِ عَلى غَيرِ عادَتِكِ. هَلْ أَنتِ مَريضَةٌ؟ ماذا حَصَلَ لَكِ؟ أَخبِريني يا رَشا.
- لا شَيءَ يا سُهادُ. إِنَّني أَشعُرُ فَقَطْ بِانقِباضٍ شَديدٍ في قَلبي مُنذُ صَباحِ هذا اليَومِ وَلا أَجِدُ لَهُ تَفسيرًا. لَدَيَّ ساعَةٌ واحِدَةٌ قَبلَ قِراءَةِ أَخبارِ السّاعَةِ التّاسِعَةِ صَباحًا. أُريدُ أَنْ أَشرَبَ مَعَكِ فُنجانًا مِنَ القَهوَةِ؛ لِأَنَّ رَأْسي يَكادُ يَنفَجِرُ.
     وَمَضى النَّهارُ كَئيبًا حَزينًا عَلى المُذيعَةِ رَشا، وَفي تَمامِ السّاعَةِ الواحِدَةِ وَالنِّصفِ بَعدَ الظُّهرِ، عادَتْ إِلى بَيتِها. كانَ مِنْ عادَتِها أَنْ تُسرِعَ إِلى المَطبَخِ لِتَجهيزِ وَجبَةِ الغَداءِ لِزَوجِها وَلِلأَولادِ.
- رَشا، أَينَ أَنتِ؟ بِالتّأْكيدِ في المَطبَخِ. سَنُبَدِّلُ مَلابِسَنا فَورًا أَنا وَالأَولادُ وَنَأْتي لِمُساعَدَتِكِ يا حَبيبَتَنا الغالِيَةَ.
     وَتَفاجَأَ زِيادُ بِزَوجَتِهِ تَجلِسُ عَلى الأَريكَةِ في غُرفَةِ الجُلوسِ وَهِيَ تُخفي وَجهَها بِكَفَيِّ يَديها.
- ما بِكِ يا رَشا؟ لِماذا لَمْ تَطبُخي لَنا وَجبَةَ الغَداءِ كَعادَتِكِ؟ هَلْ أَنتِ مَريضَةٌ؟ هَلْ أُحضِرُ الطَّبيبَ؟
- لا يا زِيادُ. أَنا لَستُ مَريضَةً. أُريدُ أَنْ أَجلِسَ هُنا لِوَحدي. إِنَّ قِلبي ما زالَ مَقبوضًا وَدُموعي لا تُريدُ أَنْ تَتَوَقَّفَ.
- حَسَنًا يا زَوجَتي الغالِيَةِ، سَأَطلُبُ طَعامًا جاهِزًا فَلا تَتَضايَقي.
- زِيادُ، افعَلْ ما تَشاءُ، وَلكِنْ دَعني وَشَأْني فَأَنا أُريدُ أَنْ أَجلِسَ لِوَحدي هُنا. مِنَ الأَفضَلِ أَنْ تَذهَبَ مَعَ الأَولادِ وَتَتَناوَلوا طَعامَ الغَذاءِ في أَيِّ مَطعَمٍ. أَرجوكَ أَتَوَسَّلُ إِلَيكَ أُريدُ أَنْ أَبقى لِوَحدي.
     وَأَخَذَ زِيادٌ الأَولادَ وَتَناوَلوا وَجبَةَ الغَداءِ في مَطعَمٍ قَريبٍ مِنَ البَيتِ. كانَ زِيادٌ قَلِقًا عَلى زَوجَتِهِ رَشا؛ فَهِيَ لَمْ تَتَصَرَّفْ بِهذا الشَّكلِ طَوالَ فَترَةِ زَواجِهِما. رُبَّما هُناكَ مَشاكِلُ في العَمَلِ. حَسَنًا، سَآخُذُ لَها وَجبَةً شَهِيَّةً مِنَ المَطعَمِ؛ فَهِيَ تُحِبُّ الكَبابَ كَثيرًا.
     عادَ زِيادُ مَعَ أَولادِهِ إِلى البَيتِ، وَتَفاجَأَ بِنَومِ رَشا عَلى الأَريكَةِ في غُرفَةِ الجُلوسِ، فَلَمْ يُزعِجها.
     وَفي صَبيحَةِ اليَومِ التّالي، استَيقَظَتْ رَشا وَأَسرَعَتْ نَحوَ هاتِفِها تَفتَحُهُ لتَسمَعَ وَتُشاهِدَ آخِرَ الأَخبارِ. يا لَلهَولِ، هُناكَ خَبَرُ استِشهادِ المُراسِلَةِ الصَّحَفِيَّةِ : "شيرين أَبو عاقلة". أَسرَعَتْ رَشا تَفرُكُ عَينَيها بِيَدَيها؛ فَلَرُبَّما هِيَ تَحلُمُ. لا، الخَبَرُ صَحيحٌ، وَالجَميعُ في حالَةِ ذُهولٍ مِنْ وَقعِ هذا الخَبَرِ المُفجِعِ.
- زِيادُ، استَيقِظْ، هُناكَ خَبَرٌ مُؤلِمٌ مُفجِعٌ. لَقَدِ استَشهَدَتْ المُراسِلَةُ الصَّحَفِيَّةُ زَميلَتُنا : "شيرين أَبو عاقلة". يَجِبُ أَنْ أَرتَدي مَلابِسي فَورًا؛ لِأَنَّ الزَّميلاتِ وَالزُّمَلاءُ جَميعُهُمْ سَيُسافِرونَ بَعدَ قَليلٍ في سَيَّارَةِ الصَّحافِةِ إِلى جِنينَ.
     وَصَلَتْ رَشا مَعَ زَميلاتِها وَزُمَلائِها إِلى جِنينَ وَجَميعُهُمْ في حالَةِ ذُهولٍ مُطبِقٍ. وَكانَتْ رَشا طَوالَ الطَّريقِ تَقرَأُ آياتٍ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ وَتَبكي بِحُرقَةٍ شَديدَةٍ؛ فَهِيَ تَعرِفُ الشَّهيدَةَ تَمامَ المَعرِفَةِ. أَصَرَّت رَشا أَنْ تَدخُلَ مَحَلًا لِبَيعِ الوُرودِ؛ لِتَشتَرِيَ وُرودًا بَيضاءَ اللَّونِ كَنَقاءِ قَلبِ الشَّهيدَةِ؛ لِتَنثُرَها عَلى مَوكِبِ تَشييعِ زَميلَتِها في جِنينَ.
     وَواكَبَتْ رَشا موكِبَ جَنازَةِ الشَّهيدَةِ شيرينَ مِنْ جِنينَ إِلى نابُلُسَ ثُمَّ إِلى رام الله فَالقُدسِ. لَقَدْ قَطَعَ نَعشُ البَطَلَةِ شيرينَ مَسافَةَ خَمسٍ وَسَبعينَ كيلومِترًا، وَهِيَ أَطوَلُ جَنازَةٍ في التّاريخِ الفِلَسطينيِّ.
     وَسارَتْ رَشا في مَوكِبِ جَنازَةِ الشَّهيدَةِ شيرينَ في القُدسِ. كانَتْ تَعودُ بِالذِّكرَياتِ إِلى الماضي، فَابتِسامَةُ شيرينَ ما زالَتْ حاضِرَةً. كانَتْ تَبتَسِمُ حَتّى في أَصعَبِ المَواقِفِ، حَتّى بَينَ الانفِجاراتِ وَتَحتَ وابِلِ الرَّصاصِ الكَثيفِ.
     بَقِيَ أَنْ تَعرِفوا أَنَّ رَشا رُزِقَتْ بَعدَ حَوالي السَّنَةِ بِطِفلَةٍ أَسمَتها شيرينَ. وَلِأَوَّلِ مَرَّةٍ، لاحَظَ فَريقُ الأَطِبّاءِ الَّذينَ قاموا بِتَوليدِ رَشا أَنَّ الطِّفلَةَ شيرينَ وُلِدَتْ وَهِيَ تَبتَسِمُ وَلَمْ تَبكِ. نَعَمْ يا شيرينُ، فابتِسامَتُكِ لا يُمكِنُها أَنْ تَموتَ. وَها هِيَ الطِّفلَةُ شيرينُ، ابنَةُ رَشا وَزِيادٍ تَبتَسِمُ دَومًا. تَنظُرُ بِاستِمرارٍ إِلى صورَةِ الشَّهيدَةِ شيرينَ المُعَلَّقَةِ في الصّالَةِ وَهِيَ تَبتَسِمُ، فَتُقَلِّدُها في ابتِسامَتِها.
جاءَ الخَبَرُ المُفجِعُ المُؤلِمُ      خَبَرٌ صاعِقٌ عاجِلٌ مِنْ مُخَيَّمِ جِنين
فَرَكَتْ رَشا عَينَيها بِكِلتَيْ يَدَيها  هَلْ أَنا أَحلُمُ بِالتَأْكيدِ أَمْ هُوَ خَبَرٌ يَقين
ثُمَّ فَتَّحَتْ عَينَيها لِيَصدِمَها الخَبَرُ   استِشهادُ الصَّحافِيَّةُ المَلاكُ الطّاهِرُ
"شيرين"
الحِجارَةُ وَالأَرضُ وَالسَّماءُ تَبكي  وَعَمَّ الحُزنُ وَالأَسى جَميعَ أَرجاءِ فِلَسطين
رَوَيتِ بِدَمِكِ الحُرِّ تُرابَ الوَطَنِ  أَنتِ التّاجُ المُرَصَّعُ بِالحَقِّ عَلى الجَبين
صارَ نَعشُكِ في أَطوَلِ جَنازَةٍ فِلَسطينِيَّةٍ
                                  آآهٍ يا عُمَرَ، وَأَينَ أَنتَ يا صَلاحَ الدّين؟؟
يا رَبِّ ارحَمْ شَهيدَةَ الحَقِّ وَالكَلِمَةِ   وَامنَحها الجَنَّةَ هُناكَ في عِلِّيين
وَحَّدَتِ القُدسَ بِمُختَلَفِ أَطيافِها
 مُسلِمونَ مَشوا في جَنازَتِكِ مَعَ المَسيحيين

كُنتِ في شَهرِ رَمَضانَ في الأَقصى 
                           مِنْ مالِكِ الخاصِّ تَأْتي بِطَعامِ الإِفطارِ لِلمُعتَكِفين

زُفَّتْ عَروسَ القُدسِ بِالأَمسِ مَحمولَةً
                                   تَبتَسِمُ كَعادَتِها رُغمَ كَيدِ المُعتَدين

لَكِ كُلُّ الرَّحمَةِ يا شيرينُ يا ابنَةَ القُدسِ
                            سَلامٌ لَكِ وَعَلَيكِ مِنْ رَبِّ العالَمين

مُلاحَظَةٌ : الإهداءُ لِروحِ الشَّهيدةِ عروسِ القُدسِ : شيرين نَصري أَبو عاقلة.