رواية العمى

بي دي ان |

01 مارس 2022 الساعة 12:14ص

أتيح لي ان اقرأ في الأيام الأخيرة من شهر فبراير الماضي رواية "العمى" للروائي البرتغالي المبدع، جوزية ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل للادب، وهي تقع في 320 صفحة من القطع المتوسط، وترجمة محمد حبيب، وصادرة عن مكتبة نوبل عام 1998. ورغم ان الروائي لا يترك للقارىء متنفسا لالتقاط الانفاس في قراءة روايته. لانه لم يلجأ للعناوين التفصيلية، ولم يجزء الرواية لاقسام، وانما يأخذ القارىء في سردية لا متناهية في عوالم الرواية المشوقة، الا ان عبقرية النص، وتواصل زخم الاحداث وحيويتها، والاستحواذ على المتلقي يغريك بالبقاء في دائرة الاثارة البديع.
ابطال الرواية جميعهم بدءا من طبيب العيون وزوجته والممرضة وسائق التاكسي والمريض الأول المصاب بالعمى وزوجته والطفل الاحول ووالدته والفتاة صاحبة النظارات السوداء ومضاجعوها، إلى إداريو الفندق والغرسون، إلى الرجل الكهل معصوب العين،.. الخ لم يحمل أي منهم اسما، حتى كلبهم، الذي رافق زوجة الدكتور بعد خروجهم من الحجز داخل اسوار قسم من مستشفى الامراض العقلية لم يحمل اسما. ومع ذلك يبقيك ساراماغو متتبعا التراجيديا السوداء التي اقتحمت المدينة او الدولة بمرض طارئ سماه "بياض العمى".
وهنا الروائي لم يطلق اسما أيضا على المدينة، او على الدولة، وكأنه أراد ان يشي للمتلقي، بان ظاهرة العمى الأبيض، يمكن ان تحدث في مطلق مدينة بغض النظر عن اسمها وهوية دولتها، ومركزها الحضاري، حتى يوحي لك بأن العمى قد يصيبك اسوة بابطاله، الذين تفشي بينهم العمى حتى طال كل سكانها دون استثناء بما في ذلك الأطباء والممرضين والجيش والشرطة والوزارات والمؤسسات والتجار وأصحاب المهن .. وكل مقيم في المدينة إلا امرأة واحدة بقيت ترى وتقص على زوجها وشركائه من العميان سيرورة الاحداث، وهي زوجة الطبيب، ولم يحاول ان يعطِ سببا لذلك، ولم يتح او يسمح للطبيب نفسه، وهو المختص بامراض العيون ان يجتهد او يقدم قراءته لهذا الاستثناء.
وخلق الروائي بخياله الخصب عالما او مملكة لفاقدي النظر او العميان في القسم الخاص من مستشفى الامراض العقلية، الذين وصل عددهم لحوالي ال300 انسانا من النساء والرجال والأطفال، وزعوا على غرف القسم، وكان يأتيهم الطعام من قبل الجنود المكلفين باعمال الحراسة لمنع المكفوفين من الخروج او الاقتراب من احد بما في ذلك الجنود والرقباء والضباط، لأن المرض معدي، ونتاج الرعب والخوف من العمى اضطروا لاطلاق الرصاص على العديد من النزلاء، واردوهم قتلى، وطلبوا من المصابين بالعمى دفن امواتهم، وأمنوا لهم رفش وأدوات الحفر.
كان الوضع في قسم الامراض العقلية الذي خصص للمصابين بالعمى مزريا حتى الثمالة، لا ماء نظيف، والحمامات نتاج العمى العام باتت موبوءة بالروائح الكريهة، والغائط يزكم الانوف، لانه منتشر في الغرف وعلى الاسرة وفي الممرات، ووضع قاتم أضاف للعمى عمى آخر اكثر بؤسا ولعنة، وزاد من ظلامية المكان. ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل ان عالم العميان شهد انتشارا للبلطجة مع قيام مجموعة من العميان معهم مسدس وعصي بفرض الخاوة على مرضى الغرف الأخرى من خلال سيطرتهم على كراتين الأطعمة التي تصل للجميع، واعلنوا بيانا واضحا كل غرفة تريد الحصول على الاكل مطلوب من نزلائها: أولا جمع كل ما لديهم من أموال وذهب وساعات ومقتنيات ثمينة؛ ثم اضافوا امرا أكثر دونية عندما طلبوا من النساء في كل غرفة ان يتوجهن لغرفتهم لمضاجعتهن مقابل بعض فتات الاكل. الامر الذي دفع بعضهن لاحقا لارتكاب جرائم قتل ضد زعيم العصابة ورفاقه، وقادت العملية زوجة الطبيب من خلال المقص، الذي وجدته في حقيبة يدها بالصدفة، ثم حصل لاحقا التمرد العام من قبل نزلاء الغرف على من تبقى من قطاع الطرق.
وبالصدفة المحضة بعد الانتهاء من تلك العصابة، اكتشفت زوجة الطبيب عندما ذهبت للحصول على الاكل عدم وجود حراس، لانهم باتوا جميعا عميان، ولم يبق هناك أي حارس، وعمموا الخبر فخرجت الغالبية في اسمالهم وبؤسهم يدرون في الشوارع بحثا عن الطعام، فوجدوا ان كل سكان المدينة هائمون على وجوههم منتشرين في الشوارع والازقة كل مجموعة منهم تبحث عن الاكل والماء، والمحال التجارية والسوبرماركتات مفتوحة ومنهوبة من قبل مجموعات العميان  فباتت المدينة وشوارعها بمثابة منطقة آسنة مليئة بالغائط، والموتى على الطرقات، والكلاب الضالة تنهش جثثهم، والروائح الكريهة والعفن والرطوبة اضفى على المشهد واقعا خرافيا من التراجيديا العمياء، حتى البيوت تم اقتحامها من قبل اخرين والسكن فيها بحثا عن الطعام، وعرض نموذج العجوز العمياء، جارة الفتاة صاحبة النظارة السوداء، وكيف سيطرت على بيت أهلها، وكانت تأكل الارانب والدجاج نيا لتبقى على قيد الحياة، والتي عندما شعرت ان حياتها اقتربت من النهاية خرجت للشارع وهي تحمل مفتاح شقة صاحبة النظارة، لعلها تعود وتجد مفتاح شقتها، وكانت جثتها مأدبة للكلاب، التي التهمت نصف جسدها الضعيف والبائس، ومع ذلك قامت زوجة الطبيب بدفنها في حديقة بيت الفتاة.
وقدم لنا ساراماغو نموذج الكاتب الذي احتل بيت المصاب بالعمى أولا، وكيف كان يكتب مدوناته عن تجربة العمى، وعندما علم ان زوجة الطبيب ترى طالبها بان تصف له واقع الحجز في قسم مستشفى المجانين. ثم عرض عودة الطبيب وزوجته ومعهم المجموعة الأساسية المكونة من سبعة اشخاص: المصاب بالعمى أولا وزوجته والفتاة صاحبة النظارة السوداء والطفل الاحول والكهل الى بيتهم، وكيف صور لحظة هطول المطر واستغلال النساء الثلاث للامر بالاستحمام بماء المطر عاريات، وتلصص الكهل عليهن مع انه لا يراهن،
ومن المشاهد الهامة في القسم الأخير من الرواية، كيف امسى مجتمع العميان له منابر للمفوهين ورجال الدين، الذين باتوا يتحدثون لجماهيرهم عن التقوى والايمان وآخر الزمان، وكان المستمعون تشرأب عيونهم نحو الخطباء، وكأنهم يرونهم، ثم لجوء زوجة الطبيب وزوجها والاعمى الأول وزوجته الى الكنيسة، وكيف شاهدت صاحبة العيون الوحيدة الصور الموجودة في الكنيسة بلا عيون، او بعيون مغطاة بالابيض، وكأن القس خادم الكنيسة أراد ان يعمي صور القديسين حتى لا ترى اسوة باهل المدينة.
وبالنهاية وفي احد الليالي اثناء قراءة زوجة الطبيب لهم من احدى الروايات فجأة، صرخ المصاب الأول بالعمى انه بات يرى سوادا في عينيه، وزال العمى الأبيض، ولكنه تدريجيا صرخ ثانية بدأت أرى، ثم تلاه الاخرون تدريجيا، وهكذا استعاد سكان المدينة نظرهم.
اعتقد ان رواية "العمى" ذات قيمة أدبية فنية عظيمة، فيها خصب خيال هائل، واعتقد انه تحدث عن ظاهرة يمكن الافتراض ان تصيب مجتمعا ما اسوة بوباء "كوفيد 19" او غيره من الأوبئة، وتتعطل دورة الحياة في المجتمع، وتتوقف عملية التطور، ويعود الناس القهقري إلى مربعات الزمن الأول. ومع ذلك تمكن الانسان من التعامل مع مفرادت وظواهر اللحظة القاتمة، رغم كل التعقيدات، والخسائر البشرية في الأرواح، ونشوء ظواهر اجتماعية لم يألفوها فيما مضى من حياتهم، والتعايش معها، والتغلب عليها وفق معاييرهم الجديدة. وبراعة الاديب ساراماغو انه ترك زوجة الطبيب بعيونها لتروي حبكات ومشاهد الرواية، والرابط الناظم بين البداية والنهاية التراجيدية. صنع عالم خرافي غير مألوف بعبقريته.
شكرا للصديق محمود أبو الهيجا، الذي نصحني بقراءتها، وهو الذي امدني بها.