أبو الهنود هكذا تبدأ الحكايات

بي دي ان |

24 نوفمبر 2020 الساعة 09:10م

كنت في الجامعة الإسلامية عام 97 حينما سمعت باسم المهندس محمود أبو الهنود، لحظتها أحببت الاسم وتابعته، وأضحيت شغوفا بمعرفة من هذا البطل، الذي تتهمه إسرائيل بأخطر عمليات تفجيرة تخطيطا وتنفيذا؟! في ظل محاربة العمل العسكري واغتيال عياش ومحي الدين الشريف وغيرهم من الابطال الافذاذ، فجاءت عمليات عسكرية استهدفت الأسواق والباصات لجنود الاحتلال، وكانت تضربهم بمجموعة من الفدائيين في تطور نوعي ومهم، ظنوا للوهلة الأولى أنها قادمة من أحد الكواكب المجاورة لمجرتنا الشمسية، او من خلال دولة لا يعرفونها من قبل؟ من هؤلاء وكيف جاؤوا ومن خلفهم، وما علموا أن بطل عصيرة الشمالية تحدث بعد صمت وترقب فقال كلمة غيرت مسار الحالة الفلسطينية الى يومنا هذا.

محمود أبو الهنود مقاتل فلسطيني تحرك وشكل الخلايا العسكرية بعد الضربة التي استهدفت حركة حماس في عام 96، ولحظتها اطمأن الاحتلال لانتهاء كابوس العمليات الفدائية، فخرج لهم أبو الهنود من حيث لم يحتسبوا، ونفذ مجموعة عمليات في سوق محنيه يهودا فاجأت الاحتلال، وأربكت الحسابات وأعادت المقاومة لسدة العمل والفاعلية، واعتبر أبو الهنود المهندس الثالث بعد يحيى عياش ومحي الدين الشريف، وهو مواليد 1969، ودرس الشريعة وأبعد لمرج الزهور في حملة الإبعاد الجماعية، وهو شاب طويل القامة، عريض المنكبين، بيضاوي الوجه، عيونه خضراء، بشرته بيضاء، وصاحب ذكاء فطري وحيوية عفوية، يعشق العمل والمبادرة، لم يتزوج فقد شغلته الثورة والقتال وتبعاتها من اعتقال وإبعاد ومطاردة وشهادة.

أكثر ما لفتني بعمليات أبو الهنود اختياره لجميع المقاتلين والاستشهاديين من أصدقائه وأحبابه من أبناء قريته عصيرة الشمالية، والتي أضحت رمزا للجهاد والبطولة، حيث أرسل أربعة من خيرة شبابها دفعة واحدة. وتميز أبو الهنود بعمليات إطلاق النار واصطياد المستوطنين والعسكريين في مدن الضفة، حيث شارك بنفسه بعشرات الكمائن، قبل انتقاله لهندسة العمليات الاستشهادية في وقت صعب جدا، وقد كان مبادرا متمكنا في استخدام سلاحه، واجه وحده كتيبة من نخبة الاحتلال هاجمت بيت في عصيرة الشمالية بهدف اغتياله، فالتف عليهم وقَتل منهم ثلاثة جنود وأصاب رابع بصورة بالغة، وانسحب من المكان مصابا وينزف، ووصل الى مستشفى نابلس زاحفا وقد أغمى عليه من الإعياء والجهد والإصابة، ومن لحظتها تحول لأسطورة يعشقها الفلسطينيون، ويتغنون به في المدن والقرى والبلدات، ونموذجا لكل طفل فلسطيني يسعى لان يصبح متل البطل أبو هنود، حتى الأمهات في قرى نابلس أضحت دعواتهم له ولأطفالهم "ربنا يمه اشوفك تكبر وتصير متل أبو هنود". 

أبدع محمود في حياة المطاردة والاختباء والتمويه، فكان فارسا نموذجيا بطوله ووسامته وجرأته ونقاء نفسه ونبله الدفاق، وعاش معظم أوقاته متنقلا في الجبال والوديان، ومن قصصه العجيبة الدالة على بسالته وقوة ارادته، أنه حفر مغارة بيديه استمر حفرها عام كامل، لأنها حفرت بمعاول بدائية، ونقل باطنها الصخري والرملي بعيدا عنها لتمويه، مع العلم أنها موجودة حتى اللحظة، وأضحت محجا ومزارا لمن يريد تنسم سيرة هذا البطل.

نجى أبو الهنود من عدة محاولات اغتيال، واستهدفت إحدى هذه المحاولات السجن الذي اعتقل فيه من قبل السلطة، واستشهد لحظتها أكثر من عشرة من الحراس والسجانين، واستأنف قيادة العمل العسكري المقاوم، ورفض الزواج وعز عليه ارسال الاستشهاديين دون اللحاق بهم، حتى نال ما تمنى رحمه الله باستهداف طائرة مروحية في 23 نوفمبر 2001، أطلقت خمسة صواريخ على سيارته، مما أدى لاستشهاده ومعه الشقيقين أيمن ومأمون حشايكة.

في ذكرى استشهاده ومع عودة التنسيق الأمني، لا أدري هل انتهت حكاية محمود أبو الهنود؟ أم بدأت متجددة دفاقة منصورة مفاجئة رغم محاولات الاحتواء؟! فنابلس جبل النار بقراها ومخيماتها واحيائها القديمة، والضفة المترامية بوجع صفقة القرن وخذلان التطبيع العربي تخبئ بين جوانبها ألف محمود يجددون الهمة ويرفعون الراية ويعيدون المجد بلحظات كما فعل أبو هنود.