تقدير موقف .. قرارات سعيّد في تونس.. نظام رئاسي وانتخابات جديدة؟

بي دي ان |

09 نوفمبر 2021 الساعة 01:05ص

مقدمة
كلّف رئيس الجمهورية قيس سعيّد، يوم الأربعاء 29 أيلول/سبتمبر 2021، السيدة نجلاء بودن بتشكيل حكومة جديدة، لتكون أول امرأة في تاريخ تونس تتولى هذا المنصب؛ "بما يعزز القضاء على الفساد والفوضى التي عمت الدولة في هذه المرحلة" على حد قوله. 

جاء هذه التكليف بعد سلسلة قرارات أصدرها الرئيس بعد تعمق الأزمة الصحية والاقتصادية والسياسية في تونس حتى خرجت الاحتجاجات إلى الشارع.

لقد تراجعت الاحتجاجات على قرارات سعيّد، وتزايدت شعبيته على حساب حركة النهضة (أكبر أحزاب البرلمان والمرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين)، حيث أظهرت نتائج استطلاع أنجزته مؤسسة "سيغما كونساي" لسبر الآراء، وجريدة المغرب اليومية، في 19 أيلول/سبتمبر 2021، "حيازة سعيد على 90 بالمائة من نوايا التصويت، في حين تراجعت شعبية حركة النهضة إلى نسب غير مسبوقة. 

كذلك حصل سعيّد على دعم عربي ودولي لقراراته ولأهمية وجود مسار سياسي جديد، كما حصل على دعم شعبي، وبخاصة بعد ملاحقة ما يعتقد على نحو واسع، أنّهم من المرتشين والفاسدين.

من المتوقع استقرار الحكومة، إذ يتضح من تكليف نجلاء بودن تشكيلها، أنها ستكون حكومة كفاءات (غير حزبية)، وستُدعم من رئاسة الجمهورية؛ كون الرئيس من شكلها، وسيتحمل وزر النجاح أو الفشل، ويبدو السيناريو الأرجح تعزز صلاحيات الرئيس، وتعزيز النظام الرئاسي، وقبول مختلف أطراف المشهد السياسي بالاتجاه نحو مرحلة جديدة تتضمن انتخابات تديرها حكومة بودن.

قرارات سعيّد ودوافع الحدث
كان الرئيس التونسي قيس سعيد أصدر مرسوماً رئاسياً في 25 تموز/يوليو 2021 بإعفاء كلٍّ من هشام مشيشي رئيس الحكومة، وإبراهيم البرتاجي وزير الدفاع، إضافة إلى حسناء بن سليمان وزيرة العدل من مهامهم في الحكومة، وتجميد البرلمان، مع رفع الحصانة عن النواب. 

تلى ذلك عدد من المراسيم، حيث صدر في 22 أيلول/سبتمبر 2021 مرسوم يقضي بمواصلة رفع الحصانة البرلمانية عن جميع النواب، وإيقاف الامتيازات المسندة إلهم، مع إيقاف التدابير الخاصة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، إضافة إلى مواصلة العمل بتوطئة الدستور، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع هذه التدابير الاستثنائية، إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين. 

حصلت القرارات على دعم الجيش، حيث بدأ بمحاصرة مقر البرلمان ونشر الدبابات مع صدور القرار وصولاً إلى إقالة الحكومة، ثم منع السفر لعدد من المسؤولين في الحكومة السابقة المدعومة من حركة النهضة، حيث طالت الإقالات وزراء ومحافظين بعضهم تابعون للحركة. 

تباينت آراء الأحزاب التونسية إزاء قرارات الرئيس، حيث اعتبرت حركة النهضة، في بيان نشر على صفحة راشد الغنوشي على فيسبوك بعد يومين من صدور القرار، "أن الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها رئيس الجمهورية غير دستوريّة، وتمثل انقلاباً على الدستور والمؤسسات"، واستمرت المطالبات بالعدول عن القرار. 



في الجهة المقابلة، وفي تموز/يوليو 2021، ساندت حركة الشعب، الحاصلة على 15 مقعداً بالانتخابات البرلمانية للعام 2019، قرارات سعيّد، معتبرة إياها "طريقاً لتصحيح مسار الثورة الذي انتهكته القوى المضادة لها، وعلى رأسها حركة النهضة والمنظومة الحاكمة برمتها".   ثم لاحقاً تبنى الموقف نفسه الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي، والتيار الشعبي، وحركة تونس إلى الأمام، فقد اعتبرت جميعها قرارات الرئيس "تعبيراً عن إرادة الشعب" وخطوة مهمة في اتّجاه بناء تونس الجديدة، وتصحيح المسار الثّوري، وأنّها "تفتح أفقاً سياسياً أمام الشعب التونسي لاسترجاع وطنه".   في خطوة مفاجئة، قدم 113 قيادياً من النهضة استقالتهم في 25 أيلول/سبتمبر2021، حيث نقلت الإذاعة التونسية عن الأعضاء المستقيلين تشديدهم على أن "السبب المباشر في الاستقالة الجماعية اعترافهم بالفشل في إصلاح الحزب من الداخل، والإقرار بتحمّل القيادة الحالية المسؤولية الكاملة لما وصلت إليه الحركة من عزلة في الساحة الوطنية".   هذا القرار أو الانقسام في حركة النهضة شكّل انتصاراً ضمنيّاً لقرارات الرئيس التونسي.

سياقات الأزمة
لم تكن القرارات الرئاسية، منفصلة عن سياقات الأزمة السياسية التي تمرّ بها تونس منذ سنتين، فإثر الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت في 2019، والتي جاءت بسعيّد رئيساً للجمهورية ومنحت حركة النهضة 52 مقعداً من إجمالي عدد المقاعد البالغ 217 مقعداً لتشكل أكبر كتلة في البرلمان، لكنها مع بعض التحالفات تشكل أغلبية في البرلمان، بدأت تظهر أزمات متلاحقة، وبخاصة مع وجود برلمان "متشظٍّ" يسهم فيه اثنا عشر حزباً وقائمة.

تشكلت حكومة برئاسة الأكاديمي المستقل، المختص في القانون والإدارة العامة، هشام المشيشي، وتم منح الثقة لحكومته في البرلمان في 2 أيلول/سبتمبر 2020، بواقع 134 صوتاً من أًصل 217، ورفض 66 صوتاً، وعدم تصويت 17؛ أي إن تصويت النهضة (49 صوتاً) لها، كان حاسماً. 

 
توزيع مقاعد البرلمان في انتخابات 2019 

برز الخلاف حول الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، وتعمّقت الأزمة بين سعيّد والبرلمان، إثر التعديلات الوزارية التي أجراها المشيشي في كانون الثاني/يناير 2021 عندما حاول استبعاد وزيري الداخلية والصحة، وجلب وزراء موالين لحركة النهضة، ما قوبل بالرفض الشديد من الرئيس سعيد، ولم يسمح لهم بأداء اليمين الدستورية أمامه. 

كرّس سعيّد مقاطعته للحكومة ومجلس النواب برفض التصديق على قانون تعديل انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية الذي أجازه مجلس النواب نفسُه بأغلبية، وأعلن نفسه في 18 نيسان/أبريل 2021 قائداً أعلى للقوات المسلحة المدنية والجيش.

رافق كل ذلك انهيار الوضع الاقتصادي، وارتفاع معدلات الإصابة بفيروس كورونا على نحو كبير، كشف أزمة صحية، ما زاد من حدة الاحتقان في الشارع، فتونس وفقاً لمنظمة الصحة العالمية هي الأعلى في العالم العربي من حيث حالات الإصابة اليومية خلال النصف الأول من العام. 

بدأت الحراكات بالنزول إلى بالشارع، حيث استهداف محتجون مقرات حركة النهضة في عدد من المدن، لأنها الكتلة الأكبر في البرلمان، وأصبحت موجة الاحتجاجات هي الأكبر في السنوات الأخيرة. 

مع هذه الأزمات، انهار القطاع السياحي أيضاً، وتراجعت عوائد السياحة بنسبة 74% عن معدلاتها الطبيعية، ما أدى إلى تفشي البطالة،  لتصل إلى 17.4% في الربع الرابع من العام 2020.  ومع تزايد الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالتشغيل والتنمية، اقترب المشهد إلى ما حدث خلال السنوات الأولى لثورة العام 2011. 

المرجعية القانونية وطبيعة النظام السياسي
أدى غياب المحكمة الدستورية إلى غياب دورها القضائي في الفصل بين السلطات الثلاث، والبت في النصوص المُتنازع بشأنها، لا سيما في ظل اختلاف تأويل النصوص القانونية ومحاولات بعض الأطراف كحركة النهضة، كونها أكبر كتلة بالبرلمان، أخذ مزيد من الصلاحيات على المستويين الداخلي والخارجي.   هذا، فضلاً عن مشروع "قانون الطوارئ الصحية" الذي أثار جدلاً وإشكالية جديدة بين رئيس الحكومة والرئيس حول مدى احترام الدستور والصلاحيات المخولة لكل منهما فيما يخص إعلان حالة الطوارئ، حيث ينص المشروع على أن يتم إعلان حالة الطوارئ الصحية بمقتضى أمر حكومي، وباقتراح من وزيري الداخلية والصحة، رغم أن حالة الطوارئ العامة تدخل وفقاً للدستور ضمن اختصاصات رئيس الجمهورية. 

أعلن المتحدث باسم النيابة العامة التونسية، الجمعة 6 آب/اغسطس2021، قرارات بمنع السفر لعدد من المسؤولين، وجاء ذلك بعد إقالات طالت وزراء ومحافظين تابعين لحركة النهضة. 

في ظل غياب المعلومات حول الجهة الداعمة للاحتجاجات، أعلنت العديد من الجهات عدم مسؤوليتها عنها، وتوالت اتهامات لها من قبل حركة النهضة، التي زعمت وقوف "عصابات إجرامية" مدعومة من أطراف خارجية بهدف "زعزعة استقرار البلاد وإثارة الفوضى لصالح أجندات خارجية تسعى إلى الإطاحة بـالمسار الديمقراطي"، كما اتّهمت بعض الأطراف المُناصرة للرئيس قيس سعيّد، وعلى رأسهم عبير موسى رئيس الحزب الدستوري الحر، الحاصل على 17 مقعداً في البرلمان، بالوقوف وراء تلك الاحتجاجات. 

يفتح تعطيل الرئيس الحكومة والبرلمان، ووقف تشكيل المحكمة الدستورية، الحديث حول شكل النظام السياسي في تونس: هل هو نظام رئاسي أم نظام برلماني؟ وبناء على المعطيات، واستناداً إلى القرارات المتخذة، فإن النظام يتجه نحو نظام رئاسي تكون فيه كل السلطات بيد الرئيس، علماً أن تونس ونظام الحكم فيها يندرج ضمن النظام الجمهوري، ولكن بعد الاستقلال سنة 1956 وحتى سنة 2011، كان النظام في تونس ديكتاتورياً، وشهد رئيسين هما الحبيب بورقيبة لمدة 30 سنة، ثم زين العابدين بن علي لـ23 سنة، وبعد الثورة التونسية في 2011، بدأت تونس انتقالها الديمقراطي واستمرار العملية الديمقراطية، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وفق نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي في إطار دولة مدنية عبر التداول السلمي للحكم بواسطة الانتخابات، وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها حسب الدستور المقر العام 2014. 

بعد مرور ما يقارب الشهرين على "تفجّر" الأزمة، أعلن الرئيس سعيد، في 21 آب/أغسطس 2021، عن نية جماعات إسلامية اغتياله بعد القبض على شخص متهم من قبل الأجهزة الأمنية، حيث دعت حركة النهضة لفتح تحقيق لدى النيابة العامة، وأكدت التزامها بقوانين الدولة، واحترام مؤسساتها، واعتماد الحوار لحل الخلافات.   لكن مثل هذا الإعلان يحمل في طياته مقدمات ومبررات ممكنة للحد من دور بعض الأحزاب والقوى لصالح موقع الرئيس.

الموقف العربي والدولي
انقسم الموقف الدولي والعربي بين مؤيد ومعارض للقرار.  فعربياً، عبّر رئيس المجلس الأعلى بليبيا خالد المشري عن رفضه "الانقلابات على الأجسام المنتخبة وتعطيل المسارات الديمقراطية"، كما وصف رئيس البرلمان التركي ما يحدث في تونس بـ "الانقلاب على النظام الدستوري".  في حين دعت قطر إلى ضرورة تجاوز الأزمة السياسية في تونس.   وكانت المواقف الإماراتية والسعودية مؤيدة للرئيس التونسي.

أما دولياً، فقد حث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في 29 تموز/يوليو2021، سعيّد على التمسك بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفتح باب الحوار مع مختلف الفاعلين السياسيين.  ودعت فرنسا الرئيس سعيد إلى التسريع في تشكيل حكومة تقوم على تلبية تطلعات الشعب التونسي، بينما اعتبرت ألمانيا أن ما يحدث في تونس ليس انقلاباً، مشددة على ضرورة الحفاظ على القانون الدستوري وتنفيذه، فيما دعت الخارجية الروسية إلى حل التناقضات الداخلية في تونس في إطار القانون. 

وفي إطار الحديث عن تشكيل الحكومة، استقبل الرئيس التونسي وفدا أميركياً حمل له رسالة من الرئيس الأمريكي بايدن تتعلق بالقرارات الأخيرة، مطالباً إياه بتعزيز الحياة الديمقراطية. 

أما الاتحاد الأوروبي، وفي الفترة نفسها، أكد على ضرورة استئناف النشاط البرلماني في تونس، داعيا إلى احترام الحقوق الأساسية ونبذ العنف بكل أشكاله. 

خاتمة
تراجعت حدة الاحتجاجات في الشارع التونسي، بل خرج التونسيون للاحتفال بالقرارات التي اتخذها سعيّد، وبخاصة التي تتعلق بمكافحة الفساد بعد تورط بعض القضاة بقضايا فساد، ومع انخفاض أسعار بعض السلع، ومنع الاحتكار، توفرت بيئة مناسبة لسعيّد لاستكمال مساره الجديد، وبخاصة في ظل تعاون الجيش معه، كما سلف ذكره منذ لحظات صدور القرار المفاجئ.

على صعيد حركة النهضة، من المحتمل، وحسب المعطيات، أن تتم محاسبة من يتم إثبات تهم فساد ضدهم من النيابة العامة، أما بالنسبة لأنصار حزب النهضة، فكان هناك تهديد بالنزول إلى الشارع، ولم ينزل أحد، ولكن من المحتمل أن الحزب استفاد من تجربة مصر وتراجع عن موقفه خوفاً من تصاعد الأمور وخروجها عن السيطرة، أو خشية حدوث اقتتال داخلي، وبخاصة أنّه، وكما سلف أعلاه، لم يبق لحركة النهضة سوى دعم ليبي وتركي، والأهم أنّ الحركة باتت تعاني انقساماً داخلياً، والأحزاب التي رفضت قرارات سعيّد تراجعت تدريجياً ودعمت مسار التسوية والقرارات الرئاسية.

على صعيد النظام السياسي التونسي استناداً إلى الدستور في تونس وفق تعديلاته الأخيرة للعام 2014، يكون النظام جمهورياً، ويتم التعاون بين رئيس الجمهورية والحكومة في إدارة شؤون الدولة.  ولكن بعد جملة القرارات السابق ذكرها، فان آراء المفكرين والسياسيين التونسيين ترجح أن النظام السياسي ذاهب تجاه نظام رئاسي، يكون فيه الرئيس صاحب القرار الأول والأخير في إدارة شؤون البلاد.

رحبت غالبية المنظمات الوطنية والأحزاب، وبخاصة الاتحاد العام للشغل، والاتحاد العام التونسي، والاتحاد العام للمرأة التونسية، والأحزاب التي دعمت المسار السياسي الجديد، بحكومة بودن، ولم تصدر أي بيانات من حزب النهضة حول الحكومة. 

بناء على كل ما سبق، فإنّ احتمالية نشوء نظام سياسي جديد أقرب للنظام الرئاسي، وتشكيل حكومة انتقالية لا تشمل حركة النهضة، وتكون حكومة كفاءات، تبدو السيناريو الأبرز، بحيث تتولى حكومة نجلاء بودن الإشراف على انتخابات جديدة.  ومن المهم الإشارة إلى أن الحكومة السابقة جاءت بانتخابات، ولكن هذه الحكومة سيتحمل سعيّد وزر فشلها في حال أخفقت، كونه قرر تعيينها.