التناقض المقصود

بي دي ان |

18 سبتمبر 2021 الساعة 06:54ص

في نطاق المتابعة لمواقف إدارة بايدن من ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي نلحظ بشكل لا لبس فيه، ان هناك بعض الخطاب يحمل بعدا إيجابيا، ونصفه الآخر سلبيا ومتناقضا، وهو ما يشير إلى ان الإدارة الديمقراطية تحاول ان تعطي القيادة الفلسطينية من طرف اللسان حلاوة، ولكنها في ذات الوقت والحين تقول العكس، وتسعى لإرضاء حكومة بينت / لبيد، وتأبى ان تستخدم ما لديها من أوراق قوة لترجمة الشق الأول. بتعبير آخر، تعمل الإدارة على التسويف والمماطلة للهروب من استحقاق السلام، الذي تنادي به، وهو خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967، وتتذرع بذرائع واهية للنأي بالذات عن فرض السلام الممكن والمقبول. حتى ان ناطقيها لا يمتلكون الجرأة للتأكيد للقيادة الإسرائيلية عموما، وعلى رأسها بينت وشاكيد وليبرمان وساعر وقبلهم الفاسد نتنياهو وزمرته، انهم وكل اضرابهم لا يستطيعون صناعة السلام إلا من خلال الشريك الفلسطيني، وخاصة الرئيس محمود عباس. بيد ان نيد برايس، الناطق باسم الخارجية الأميركية لا يقوى على تأكيد هذه الحقيقة، ويتهرب من الإجابة بجمل باهتة وتسويفية.
وحتى لا تبقى القراءة دون اسانيد، اعود لتصريح برايس يوم الأربعاء الماضي الموافق 15 سبتمبر الحالي، الذي بدأه بشكل مقبول وايجابي، عندما حاول توضيح موقف الإدارة من "اتفاقات ابراهام" التطبيعية المذلة، عندما أكد على "فشل هذه الاتفاقيات في دفع السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل إلى الامام، ولو خطوة واحدة، بل على العكس رأى العالم، أن إسرائيل امعنت وتغولت في قمع الفلسطينيين تحت الاحتلال، وشنت حرب شرسة على قطاع غزة المحاصر في أيار الماضي،" غير انه عاد يغزل بالمغزل الاسرائيلي قائلا "لقد كنا واضحين جدا أن "اتفاقيات ابراهام، واتفاقيات التطبيع" على نطاق واسع تجلب فوائد ملموسة لدول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل وجيرانها العرب...."
ثم عاد ثانية ليوضح فشل تلك الاتفاقيات " كما اوضحنا سابقا، ان "اتفاقيات التطبيع، واتفاقات ابراهام"، ليست بديلا عن التقدم على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية ... نحن نواصل السعي لتحقيق تقدم نحو هدفنا النهائي، وهو حل الدولتين المتفاوض عليه بين الإسرائيليين والفلسطينيين ..."
حاولت ان ابني على نصف الكأس الإيجابي هذا، بيد ان برايس لم يشأ مواصلة الخطاب الموضوعي ذاته، عندما رد على تصريحات نفتالي بينت، القائل فيها "انه لن يلتقي الرئيس محمود عباس مطلقا، فجاء الرد ضعيفا ومجعلكا، ولم يشر من قريب او بعيد لأهمية ومكانة الرئيس عباس، الشريك الحقيقي في صناعة السلام الممكن والمقبول، كما لم يشر حتى مجازا باستخدام مفهوم القيادة الفلسطينية، فقال " كنا واضحين جدا أيضا، ان نقطة البداية الموجودة لدينا الآن، كما ان نقطة البداية، التي كانت لدينا في شهر كانون ثاني الماضي، ليست  نقطة توقعنا، ان تؤدي إلى مفاوضات مباشرة بين الطرفين، أو تؤدي إلى أي نوع من الاختراق في المدى القريب." أذا على ماذا راهنت بالوصول إلى الهدف سابق الذكر في تصريحك؟ وكيف ستصل إليه، إن لم تكن تملك الخطة والإرادة والقرار لإلزام إسرائيل بالوصول لهدف الدولتين، او حتى العودة لطاولة المفاوضات المتوقفة منذ مطلع العام 2014؟ وهل تفتقر الإدارة الأميركية لأوراق القوة لتلزم الدولة المارقة والخارجة على القانون؟ وإذا كانت الولايات المتحدة لا تستطيع دفع الأمور نحو خطوة إيجابية للأمام، لماذا لا ترفع يدها عن الملف الفلسطيني الإسرائيلي، وتلقي به في أحضان الشرعية الدولية لتعمل على تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع؟ ام ان إدارتكم رغم إقرارها بالعجز عن التقدم، ترفض السماح للأقطاب الدولية والأمم المتحدة بالقيام بمسؤولياتها لتحقيق السلام الممكن والمقبول، على طريقة المثل الشعبي القائل (مقسوم لا تأكل، وصحيح لا تقسم، وكُل قدر ما تريد!) ولماذا انتهاج هكذا سياسة متناقضة؟ وهل كانت اميركا ستستخدم ذات السياسة المتناقضة في أي ملف آخر من الملفات الدولية؟
ثم ينهي تصريحه بالجزم بعدم تمكن ادارته من فعل شيء على هذا الصعيد، فيقول " لكنني لا اعتقد أنك سمعتنا ندعو صراحة لإجراء مفاوضات وجها لوجه في الوقت الحاضر. نحن واقعيون بشأن ما نحن فيه." لنلاحظ، انه يخشى ان تسمع أو تقرأ القيادة الاسرائيلية انه أطلق تصريحا متفائلا! ثم عن أي واقعية تتحدث أيها الناطق الرسمي؟ وما هي معايير الواقعية، هل تقوم على التساوق مع حكومة فاشية وعنصرية وتعمل على تأبيد الاستعمار، أم ماذا تقصد بواقعيتك بقاء سياسة المراوحة والتسويف والمماطلة وإدارة الازمة؟ ام ماذا تريد؟ إرضاء ومداراة حكومة بينت/ لبيد خشية انفراط عقدها؟ وكيف ستصنع السلام، الهدف الذي تحدثت عنه؟ وعن أي خطوات تمهيدية تتحدث، هل تقصد خطوات الحل الاقتصادي، ام الضغط على القيادة الفلسطينية لتقديم تنازلات جديدة لإرضاء وإقناع المستعمرين الإسرائيليين بالعودة لطاولة المفاوضات؟ وعن اية مفاوضات تتحدث، هل تعتبر ان مجرد عودة القيادة الإسرائيلية إلى المفاوضات وجها لوجه "إنجازا مثلا؟ هل تريد مفاوضات من اجل المفاوضات؟ وهل يمكن لقيادة إسرائيلية طليقة اليد، ومدعومة من قبلكم بكل مقومات القوة والمال والحماية صناعة السلام؟ لا يمكن بتاتا، الحل يكمن في اخضاع تلك الدولة الفاشية لعقوبات اممية اقتصادية وامنية وديبلوماسية، غير ذلك صعب، لا بل مستحيل. النتيجة الماثلة لأي مراقب، ان موقف ادارتك فاقد الاهلية والمسؤولية والمصداقية.
من المؤكد ان التناقض الجلي في تصريح برايس لم يكن عفويا، او نتاج جهل ونقص كفاءة، انما هو تناقض مقصود لإدامة الاستعمار. ولو كانت الإدارة صادقة النوايا لكانت عينت مستشارا لها للإشراف على الملف، وحددت جدولا زمنيا لإلزام حكومة بينت بتنفيذ استحقاقات السلام، ودعت الأقطاب الدولية لعقد مؤتمر دولي ذات صلاحيات تقريرية لفرض الحل السياسي. لكن الإدارة لا تريد، ولن تعمل على بلوغ الحل إلا إذا تم رفع كلفة الاستعمار الإسرائيلي. غير ذلك وهم.
[email protected]
[email protected]