يرغبون فى الرحيل؟

بي دي ان |

06 سبتمبر 2021 الساعة 04:48ص

لا تقع ضحية المثالية المفرطة وتعتقد بأن قول الحقيقة سوف يقربك من الناس ، الناس تحب وتكافىء من يستطيع تخديرها بالأوهام ، منذ القدم والبشر لا تعاقب إلا من يقول الحقيقة ، إذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها ، الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل " نيتشه.

قلت : يعاني المهمومون بمصير الوطن في أيامنا هذه، مأزقا حاداً؛ فهم غير قادرين على أن يكونوا إيجابيين، ولا يقبلون في الوقت نفسه، بالمصير الذي رسم لهم، وهو أن يلزموا الصمت، ويظلوا سلبيين للأبد. و من الأمور المُنذرة بالخراب، عندما يتعالى المثقف على واقعه، وينظر إليه من علٍ؛ فما هو يا ترى الدور الذي يمكن أن يلعبه في تغيير هذا الواقع، وهو مهمته الأولى التي من أجلها يستحق لقبه؟ فالديكتاتورية الحزبية. محتاجة مواطن سلبي ، والمواطن السلبي محتاج مثقف جبان ، ويُفضَّل لو كان جباناً ثم وضيعاً في الوقت ذاته!!

قال: المثقف الحقيقي الجدير بوصف "المثقف العضوي" حسب تعريف الفيلسوف والمفكر الإيطالي الشهير "أنطونيو جرامشي"، ليس هو ذلك المثقف المستولد قيصريا بأنابيب الحزب والعائلة والسلطة، الذي يجلس في انتظار الحرية، التي ينجزها له الآخرون كي يصوغ منها نصوصه وبياناته، أو يرسم خطوط فنه، وإنما هو ذلك الذي يسعى للحصول على حريته، ويُعبّد الطريق إليها، وتدمي قبضته من كثرة طرق بوابتها العملاقة الموصدة.

في كتاب " تحت أعواد المشانق" للصحفي والكاتب التشيكي، المثقف الثوري، يوليوس فوتشيك، قبل أن يعدمه النازيون، قال: "في الحياة لا وجود للمتفرجين، لأنه لا قيمة للمتفرجين، فثمة من يسهمون في إعلاء قيمة الحياة الإنسانية، وثمة من يهدرها بالتواطؤ عليها، وبخاصة من المثقفين!! وليس أشد خطرا على الحياة من المثقفين عندما ينحرفون، ويؤجرون معرفتهم، ويتاجرون بثقافتهم، ويخلطون على الناس، ويضللونهم، ويبيعونهم الأكاذيب والأوهام".

والربط بين الحريات السياسية، وازدهار الابداع، خطأ فادح؛ لأننا نرى في حالات كثيرة، أن التناسب يكون عكسيا بين الاستبداد، وبين أشواق الخروج من قبصته القاسية، وظلمته الحالكة. وهناك الكثير من الأدلة في الواقع العملي على ذلك من أبرزها: أن الأدب والفن بأنواعهما المختلفة، كانا في حالة من التفجر في مصر، قبل ثورة يوليو على الرغم من الاستبداد، والإقطاع، والقهر الاجتماعي.. ومعظم الأسماء التي نهلنا من منابعها الثرة، والتي لا تزال أسماؤها تتردد حتى اليوم في الأسماع، تعود إلى ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي. بل أن أعمالا أدبية واتجاهات فكرية باذخة، ازدهرت في أواخر القرن التاسع عشر، مثل الاستبداد للكواكبي، وأعمال وكتب الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، على الرغم من قسوة الاستبداد الولاة التابعين.

من الطبيعي أن يُنْتِج الجهل وانحدار الثقافة وغياب الذوق الكثير من المصائب والمشاكل، ويعكس حالة تردي عام. من الطبيعي أن يتسبب الانغلاق وإغلاق النوافذ والأبواب وتخفيض الأسقف في تدني المشاعر والإحساس باللا جدوى وبالعدمية. غير أن الأخطر هنا هو تدمير الوجدان والإحساس بالجمال والقضاء قضاءا تماما على الذائقة. وتضليل الوعي الفردي والجمعي وإقناعهما بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
[email protected]