للسياسة وجوه كثيرة

بي دي ان |

07 مارس 2021 الساعة 06:17ص

بعد الانتخابات الرئاسية التونسية، أصبح المجتمع العربي يعرف  الكثير عن الرئيس التونسي قيس سعيّد، ذلك وأن مواقع التواصل الإجتماعي ككل مرة تلعب دورا مهما في مثل هذه المراسيم الوطنية. إن الرئيس المُنتخب بإجماع تام من الشباب المهمَّش والمظلوم، شغل منصب أستاذ محاضر، بالإضافة إلى ذلك هو رجل قانون متخصص ومتمكن من القانون الدستوري، سنوات عديدة مرت على تدريسه في بعض من كليات القانون والسياسة في البلاد، حتى أصبح طلابه اليوم إما أساتذة قانون أو محامين أو في صفوف القضاة ورؤساء المحاكم العليا في البلاد. 

إن الشعب التونسي يدرك يقينا أن صلاحيات الرئيس المنتخب تقتصر على بعض المسؤوليات المعدودة، التي ربما لن تُغير من واقع البلاد شيئا. ورغم الاختلاف بين مؤيد ورافض له انتُخب رئيسا بإجماع ثلة من التونسيين، الذين رأوا فيه وطنيته وحبه الكبير لبلده وخاصة دعمه المتواصل للشباب، الذي لطالما بحث عن كرامته منذ ثورة الربيع العربي.

في الواقع أعتقد أنه لا يوجد في العالم العربي ثورة نجحت واتخذت مسارا صحيحا مثل الثورة التونسية، لأنه أولا تخلصت من نظام الرئيس الراحل وطردت بعضا من الوجوه السياسية الشيطانية وبعضا من أطراف العائلة المالكة الفاسدة من البلاد و إلى الأبد. ثانيا وحسب رأيي ما حدث في تونس سنة 2011، يمثل النموذج الثوري الوحيد الذي نجح بتأسيس ثورة مدنية ديمقراطية تكرس لمفهوم حرية التعبير بدرجة أولى وغيرها من الحريات المهمة، التي لطالما بحث عنها المجتمع وتبحث عنها المجتمعات العربية اليوم. بيد أن هذه التجربة الوحيدة الناجحة فشلت عن جدارة في إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية وفشلت في القطع بطريقة جذرية مع أيدي النظام السابق ومحاربة الفساد المتغلغل في كل أطراف مؤسسات الدولة. لذلك أرى أن الحل الوحيد لمحاربة أشكال الفساد السياسي المستفحل، يكون بشكل أساسي  من خلال العمل على بناء جيل عربي واع ومثقف يعرف حقوقه وواجباته ولا يتعلق بالأحزاب السياسية التقليدية أو يتعاطف مع الأحزاب الدينية، التي تؤثر في الشعب عن طريق الخطابات البراغماتية وهي ليست سوى قوى ناعمة تلعب دورا مهما، أثر  بطريقة سلبية على البلاد.

لا افقه الكثير عن السياسة ولكن متأكدة أنها مفهوم شاسع يشتمل على العديد من الجوانب الرئيسة ولا يكتمل إلا باكتمال الطرق  والأساليب والمشاريع الوطنية والخطابات وحسن التواصل وغيرها من المعايير الأخرى. في الأنظمة العربية خاصة، يكتسي مفهوم السياسة الغموض وفي تونس تشبع بالفوضى، حيث نرى فرقا تبحث عن إثبات ذاتها بالسعي وراء المناصب والنفوذ ونلاحظ في ذات الوقت مجموعات أخرى لا يهمها من هموم المواطن إلا صوته، كما أنها  تبحث عن الظهور والحديث عن برامجها ومشاريعها دون تفعيلها أو تطبيقها ونرى أطرافا أخرى لا تتكلم ولا تظهر عبر وسائل الإعلام كثيرا، فقط لأنها فقدت بريقها واضمحلت مع الوقت. 

هتافات من هنا وهناك وثرثرات في المحطات الإعلامية والبرامج الإذاعية دون جدوى أو مغزى واضح. لقد  فقدت السياسة مفهومها الحقيقي في تونس، وبين كل هذه الأطراف العديدة المتعددة سئم التونسي والعربي الوضع وأصبحنا نعاني جميعنا من خلل نفسي جراء هؤلاء، الذين يدعون الديمقراطية وربما لا يفقهون منها شيئا، فقط  بعض الشعارات الأوروبية الغربية، التي تشبع بها الفكر التونسي شكلا فحسب.

بعد سنوات من الثورة تيقنت أننا لا نبحث عن الديمقراطية حقا ولا عن مفهوم السياسة الحقيقي، وإنما نبحث عن تعليم سوي وصحة لكل الناس وشغل للعاطلين وحياة كريمة والتخلص من الفقر والتهميش والعنصرية. عن الديمقراطية والحياة المدنية قال ذلك المواطن البسيط: لا أريدها لأني أحيانا كثيرة لا أفهمها، أريد من الربيع العربي  حياة كريمة ولا مهانة ولا ذل، ولكن هيهات هيهات لقد رأينا كل الذل ونعاني اليوم كلنا من أمراض نفسية، حيث أننا فقدنا معنى السعادة  إلى درجة أننا اليوم نعد من بين أكثر  الشعوب الحزينة في العالم.

في الحقيقة قبل الإنتخابات الرئاسية التونسية لسنة 2019، عاشت البلاد فترة انتقالية من نظام مستبد على حد تعبير فئة من المجتمع التونسي إلى نظام ديمقراطي، لربما كان يبحث عنه الجميع في البلاد رغم اختلاف المستويات الثقافية والعلمية والأراء السياسية وتنوع وجهات النظر حول مبدأ الديمقراطية. وفي خضم  كل هذه الظروف عانت البلاد من الإرهاب ومن الخونة والساسة المنافقون والقادة المنتهكون لحقوق المواطن إلى درجة أنه قد تم تضييق الخناق علينا اقتصاديا واجتماعيا، وأصبحت غايتنا الوحيدة  الأكل والشرب وكسب قوت اليوم.

كما تعددت الأطراف السياسية واختلفت التوجهات الحزبية، وأصبحت البلاد مجرد منصب يريد أن يعتليه أشخاص لا يفقهون من الديمقراطية ومن السياسة إلا السلطة والجاه والنفوذ مهما كان الثمن: جوع وشر سرقة ونهب وموت واغتصاب فوضى عارمة اكتسحت شوارع البلاد. على أرض الواقع نعلم وندرك جيدا أن أصحاب القرار في تونس قليلون، يسيطرون على البلاد بطريقة خفية تظهر جليا في أراء و اتجاهات بعض من أعضاء البرلمان ورؤساء الأحزاب الشيطانية.

هؤلاء الساسة المتفزلكون المتشدقون، الذين يحضرون وينشُطون في البرامج التلفزية دون كلل أو ملل،  خانوا الوطن والشعب بعد أن وعدوه  بعيشة رضيّة وحياة كريمة وسويّة، لقد بان أنها مجرد هتافات فارغة وشعارات قديمة أكل عليها الدهر وشرب. وعلى الرغم من مساوئهم وأخطائهم لا  يملون ولا يكلون من البحث  عن بعض المؤيدين وعن الكثير من الغافلين لكسب أصواتهم كنَاخبين. وككلّ مرة بعد النتائج يَنسي هؤلاء المتعجرفين والمتفيهقين أولئك الطّامعين في الماء والقليل من الرغيف والزيت والطحين.

يلعن معظم الشعب التونسي الثورة، التي يُشاع أنها مؤامرة محبوكة، حيث أنه تأكد أن خدمة للمصالح السياسية و بحثا عن المناصب والكراسي العليّة، نَسي أولئك الذين انتخبناهم مصالحنا، القائمة بالأساس على توفير كرامة الحياة وإنعاش الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد بعد الحرمان المطوّل، الذي عشناه وما زلنا إلى الآن نعيشه ونعاني منه.

وبعد سنوات مهمة متعبة مرت بها البلاد، اجتمعت الأسباب واقترنت الأدلة وتكثّفت الآراء وما اختلفت كثيرا على انتخاب قيس سعيد رئيسا للجمهورية التونسية. هذا الرجل الفريد من نوعه الرجل الطيب الوقور النزيه والبعيد كل البعد عن الكذب والسفسطائية. انسان عرفه المجتمع بأخلاقه العالية قبل كل شيء،  وهذا ما ينقص قصر قرطاج، حيث أنه سبق وأن عاش فيه سحرة وخونة وأناس اتسموا بحب المال  والسرقة ونهب أموال الشعب وخيرات البلاد وهتك الأعراض وغيرها من ارتكاب الفظائع والجرائم المخزية، التي سيخلدها التاريخ.

هذه المرة وكما يقال هنا وهناك، زوجة فاضلة و امراة مثقفة وقاضية رفيعة المستوى ستحل محل زوجة الرئيس السابق، وستكون رمز المرأة التونسية وجها عربيا مشرفا للغاية. فكر آخر وعالم ثان مختلف تمام عما سبق، عائلة تونسية تشبه أغلبية المجتمع تقريبا، أسرة متخلقة ومتعلمة،  لم يسبق وأن اقترفوا جرما أو انتهكوا عرضا، ولهذه الأسباب بالذات وقع انتخاب قيس سعيّد من طرف الشباب ونحن نعلم يقينا أنه لا يملك أي برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي مهم للبلاد ونعلم أيضا ما يمكنه فعله وما لا يمكنه فعله، نحن آمنا به لأنه من الشعب وإلى الشعب، قمة في التواضع والأخلاق والرقي وهذا ما يبحث عنه المواطن التونسي، رغم اشتياقه وعطشه لإصلاحات مهمة للغاية تشمل مجالات عديدة على غرار التعليم والصحة والتشغيل..

لعل ما أعجبنا في الرئيس نحن في تونس وحتى بعضا من أشقائنا العرب، حبه لفلسطين وآراءه حول التطبيع، حيث أنه لا يمل بالتنديد بالتطبيع، في كل مرة يظهر فيها عبر وسائل الإعلام. عموما من بين أهم الأسباب، التي أردنا أن يكون على أساسها قيس رئيسنا، تعليقاته الشجاعة حول هذا الموضوع. الجميع هنا في تونس أو أغلبية المواطنين لا يستطيعون أبدا أن يخونوا القضية الفلسطينية، حيث كبرنا وترعرعنا على حب فلسطين رغم أننا لم نزرها وربما ليس لدينا جميعا أصدقاء منها. لكن رائحة فلسطين زكية وصلت العالم وتراب المقدس جاب الكون بأسره، ومن المستحيل خيانة الشعب الفلسطيني وخيانة قضية الأمة العربية الإسلامية. أرض مقدسة معطرة برائحة الزيت والبرتقال وبالخيرات، إنها أرض الأنبياء العظماء.

في هذا الوقت الحسّاس والصّعب الذي تعيشه البلاد، فقدت الأنظمة الحزبية التونسية مكانتها  وفقدت ثقتنا إلى الأبد. ولم نعد نأبه لما يقولونه لأنها شعارات فارغة تسعى  فقط لإسكات وإخماد الحريق، الذي بداخلنا بطريقة شعبوية رذيلة. اليوم تأكدنا أنه لا حزب ولا رئيس ولا وزير يستطيع أن يفعل شيئا للبلاد.  القائد أو الزعيم وإن كان صالحا، لا يستطيع أن يُصلح أمر ما بالوطن  إلا بمشورة الشيخ  وموافقته وربما بعض من أصحاب الشأن في البلاد.