اعتراف الاحتلال الإسرائيلي بأرض الصومال: قراءة في الدلالات الجيوسياسية وانعكاساتها الإقليمية

بي دي ان |

28 ديسمبر 2025 الساعة 06:56م

الكاتب
أثار إعلان الاحتلال الإسرائيلي اعترافه بما يُعرف بأرض الصومال بوصفها دولة مستقلة ذات سيادة، في السادس والعشرين من ديسمبر 2025، نقاشاً سياسياً واستراتيجياً واسعاً، تجاوز في جوهره البعد القانوني المحدود لهذه الخطوة، ليطال عمق التحولات الجارية في بنية الإقليم الممتد من شرق البحر المتوسط إلى القرن الإفريقي. فقد جاء هذا الاعتراف في لحظة إقليمية شديدة الاضطراب، تتقاطع فيها حرب غزة مع تصاعد التوترات في البحر الأحمر، وتتحول فيها الممرات البحرية من فضاءات تجارية مفتوحة إلى ساحات صراع جيوسياسي تتنافس فيها القوى الإقليمية والدولية.
من الناحية القانونية الصرفة، لا يُغيّر الاعتراف الإسرائيلي من وضع أرض الصومال ككيان غير معترف به دولياً، أعلن انفصاله من جانب واحد عن جمهورية الصومال عام 1991، عقب سقوط نظام الرئيس محمد سياد بري وتفكك مؤسسات الدولة والجيش الصومالي في سياق اندلاع الحرب الأهلية. ومنذ ذلك الحين، بقي هذا الكيان خارج منظومة الشرعية الدولية، رغم ما أنشأه من مؤسسات حكم محلية وهياكل إدارية وأمنية. غير أن السياسة الدولية، في ممارستها العملية، لا تتوقف عند حدود النصوص القانونية، بل تتعامل مع الجغرافيا بوصفها أداة نفوذ، ومع الكيانات الهشّة أو المتنازع عليها بوصفها نقاط ارتكاز محتملة لإعادة توزيع القوة وإعادة رسم خرائط التأثير.
وتكتسب الخطوة الإسرائيلية أهميتها من توقيتها وسياقها السياسي، أكثر مما تستمده من مضمونها المباشر؛ إذ جاء هذا الاعتراف في ظل استمرار العدوان على قطاع غزة وما ترتب عليه من تصاعد الضغوط الدولية على إسرائيل، وبالتوازي مع تنامي التهديدات التي تواجه الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. ويتزامن ذلك مع اقتراب لقاء سياسي رفيع المستوى بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، يُنتظر أن يبحث ملفات على تماس مباشر مع مستقبل غزة، وترتيبات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أُعلن التوصل إليه فجر الخميس 9 أكتوبر 2025 في مدينة شرم الشيخ المصرية.
في هذا الإطار، يبدو الاعتراف محاولة إسرائيلية لإعادة التموضع في القرن الإفريقي، وتقديم نفسها لاعباً أمنياً قادراً على الإسهام في حماية الممرات البحرية الدولية، في لحظة بات فيها أمن التجارة العالمية عنصراً ضاغطاً في حسابات القوى الكبرى. وهو توجّه ينسجم مع نمط تفكير استراتيجي متجدد، يقوم على بناء نفوذ في أطراف الإقليم العربي، بما يسمح بالالتفاف على مركز الصراع التقليدي، ونقل ساحات التأثير إلى مناطق أقل تحصيناً سياسياً وأكثر قابلية للاختراق. وتبرز هنا بوضوح دلالات الموقع الجغرافي لأرض الصومال، التي تطل بساحل طويل على خليج عدن، وتجاور مضيق باب المندب، أحد أهم مفاتيح الملاحة العالمية، والمدخل الجنوبي غير المباشر لقناة السويس. ويمنح هذا المعطى أي حضور خارجي في الإقليم قيمة استراتيجية تتجاوز حجمه الظاهري، ويحوّل الاعتراف السياسي إلى مدخل محتمل لحضور أمني واستخباراتي طويل الأمد قد يتطور تدريجياً بعيداً عن الأضواء.
بالنسبة لمصر، يحمل هذا التطور أبعاداً بالغة الحساسية. فالقاهرة تنظر إلى البحر الأحمر باعتباره امتداداً مباشراً لأمنها القومي، وترى في قناة السويس شرياناً سيادياً لا يحتمل أي اختلال في موازين السيطرة عند مداخله. ومن هذا المنظور، فإن أي تمركز لقوة غير عربية عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر يثير هواجس أمنية واضحة، ويعيد طرح سؤال السيطرة على أحد أهم الممرات التجارية في العالم، بما يتجاوز مسألة الملاحة إلى إعادة تعريف أدوات النفوذ والضغط في لحظات الأزمات الدولية.
ولا تقل حساسية الخطوة بالنسبة لتركيا، التي رسّخت خلال السنوات الأخيرة حضوراً عسكرياً وسياسياً في الصومال في إطار دعم الدولة الصومالية المركزية والمساهمة في إعادة بناء مؤسساتها الأمنية. فالاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال يأتي في سياق تنافس نفوذ ممتد بين أنقرة وتل أبيب، يبدأ من شرق المتوسط، ويمر بسوريا وغزة، ولا ينتهي عند القرن الإفريقي. ومن شأن هذا التطور أن يفتح ساحة احتكاك غير مباشرة بين الطرفين، ويضع الوجود التركي في الصومال أمام معادلات أكثر تعقيداً، خاصة إذا ما تحوّل الاعتراف إلى شراكات أمنية أو تسهيلات لوجستية ذات طابع دائم.
أما إيران، فيُقرأ الاعتراف من زاوية مختلفة، ترتبط بالساحة اليمنية والبحر الأحمر. فالقرب الجغرافي والاستخباراتي من هذه الساحة يمنح إسرائيل قدرة إضافية على مراقبة النفوذ الإيراني ونشاط جماعة الحوثي، ويحد من هامش حركتهم في استهداف المصالح البحرية. وبذلك، لا يُنظر إلى الخطوة بوصفها معزولة، بل كجزء من شبكة أوسع تهدف إلى تضييق الخناق الاستراتيجي على طهران ونقل بعض ساحات المواجهة من البر إلى البحر والمضائق الحيوية.
وتبرز جيبوتي في هذا المشهد بوصفها نقطة تماس حساسة. فهذه الدولة الصغيرة، التي تستضيف قواعد عسكرية لقوى دولية كبرى، تقع عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وأي تغيير في موازين النفوذ على الضفة المقابلة، أي في أرض الصومال، ينعكس مباشرة على موقعها ودورها، وقد يحوّل المنطقة إلى ساحة تنافس مفتوح تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية.
وفي خلفية هذا كله، يظل ملف غزة الفلسطينية حاضراً بقوة. فقد طُرحت في مراحل سابقة سيناريوهات تتعلق بإعادة توطين سكان القطاع في دول إفريقية، من بينها أرض الصومال. ورغم غياب إعلان رسمي يربط بين الاعتراف وهذه الطروحات، فإن تداولها السابق يجعل من الصعب فصل الخطوة الحالية عن سياق التفكير الاستراتيجي الأوسع المتعلق بمستقبل غزة وسكانها.
وفي المحصلة، لا يمكن التعامل مع الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال بوصفه خطوة رمزية أو حدثاً عابراً. فعلى الرغم من محدودية أثره القانوني، إلا أنه ينطوي على دلالات سياسية وأمنية عميقة تندرج ضمن مسار أوسع لإعادة ترتيب النفوذ في الممرات البحرية والمناطق الهشّة. وفي ظل هذا المشهد المتحوّل، يبقى السؤال المطروح: إلى أي مدى تمتلك الأطراف الإقليمية القدرة على قراءة هذه التحولات مبكراً، والتعامل معها ضمن رؤية جماعية تحول دون تحوّل التحركات الصامتة اليوم إلى أزمات مفتوحة في الغد؟
سامحونا؛؛؛

جمال أبوغليون
[email protected]