هل ينجح وزير المالية والتخطيط الاستراتيجي في إنقاذ السلطة الفلسطينية من أزمتها المالية؟ قراءة استراتيجية في خيارات الإصلاح وحدود الممكن

بي دي ان |

25 ديسمبر 2025 الساعة 09:02م

الكاتب
تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية أزمة مالية هي الأعمق منذ تأسيسها، تتداخل فيها ضغوط الاحتلال الإسرائيلي واحتجاز أموال المقاصة، وتراجع الدعم الدولي، مع اختلالات داخلية متراكمة، أبرزها تضخم الجهاز الوظيفي وارتفاع فاتورة الرواتب، التي تستنزف القسم الأكبر من الموازنة العامة وتحدّ من قدرة الحكومة على الإيفاء بالتزاماتها الأساسية.
في هذا السياق، تبرز مقترحات وزير المالية والتخطيط الاستراتيجي د. أسطفان سلامة، التي تعيد إحياء حزمة إصلاحات سبق أن طُرحت في عهد وزير المالية الأسبق شكري بشارة، لكنها لم تُنفذ آنذاك بسبب خلافات سياسية وإدارية، واعتراضات من هيئة التقاعد الفلسطينية، وحساسية التطبيق في بيئة سياسية واجتماعية معقدة.
وقف التعيينات: خطوة ضرورية أم مخاطرة اجتماعية؟
يقوم المقترح الأول على وقف فعلي للتعيينات في القطاع العام، باستثناء قطاعي الصحة والتعليم، وعدم تعويض المتقاعدين أو المستقيلين بتعيينات جديدة.
من الناحية المالية، يُعد هذا الإجراء مدخلًا أساسيًا لكبح تضخم فاتورة الرواتب ومنع توسعها، لكنه اجتماعيًا وسياسيًا شديد الحساسية، في ظل ارتفاع معدلات البطالة واعتماد آلاف الأسر الفلسطينية على الوظيفة العمومية كمصدر دخل شبه وحيد.
تدوير الموظفين وإصلاح إدارة الموارد البشرية
المقترح الثاني يدعو إلى سد الشواغر الحكومية عبر تدوير الموظفين، وإنشاء دائرة موارد بشرية مركزية تتبع رئاسة الوزراء، تتولى إعادة توزيع الكوادر بدل استقطاب موظفين جدد.
هذا التوجه يعكس انتقالًا من منطق التوظيف التقليدي إلى الإدارة الرشيدة للموارد البشرية، لكنه يتطلب قواعد بيانات دقيقة، ومعايير شفافة، وإرادة سياسية تمنع الاستثناءات والمحسوبيات التي أضعفت ثقة الشارع سابقًا بأي حديث عن إصلاح إداري.
التقاعد المبكر: حل مالي مؤجل الكلفة
إعادة طرح حوافز التقاعد المبكر الطوعي، عبر تحسين نسبة راتب التقاعد وبدلاته، تهدف إلى تقليص أعداد الموظفين وخفض النفقات على المدى المتوسط.
غير أن هذا الخيار يصطدم برفض هيئة التقاعد الفلسطينية، التي تخشى من أعباء مالية مستقبلية، ما يضع الحكومة أمام معادلة دقيقة بين خفض فوري للنفقات والتزامات طويلة الأمد قد تعيد إنتاج الأزمة بصيغة مختلفة.
تعديل قوانين الخدمة: بين القانون والواقع
تشمل المقترحات إعادة فتح قانوني الخدمة المدنية والعسكرية، مع إعادة ضبط بدلات المواصلات والعلاوات والترقيات، أو تعليق بعضها مؤقتًا دون المساس بالراتب الأساسي.
قانونيًا، يظل هذا الخيار ممكنًا ضمن الأطر التشريعية، لكنه سياسيًا واجتماعيًا محفوف بالمخاطر، وقد يواجه رفضًا نقابيًا وشعبيًا ما لم يُقدَّم ضمن رؤية شاملة تراعي العدالة، وتحمي ذوي الدخل المحدود، وتوزّع الأعباء بشكل متوازن.
الوظائف الوهمية: الاختبار الحقيقي للإصلاح
الأكثر حساسية ودلالة هو الحديث عن وجود قوائم بوظائف وهمية داخل الجهاز الحكومي، تُعد هدفًا مباشرًا لوزارة المالية لوقف نزيف الرواتب.
نجاح هذا المسار مرهون بتطبيقه بشفافية كاملة ودون انتقائية أو تصفية حسابات، إذ إن أي تمييز في المعالجة سيقوض مصداقية الإصلاح ويحوّله إلى عبء سياسي جديد.
خلاصة استراتيجية
تعكس مقترحات وزير المالية فهمًا واقعيًا لجذور الأزمة المالية، وهي من حيث المبدأ إجراءات إصلاحية معتمدة في إدارة الأزمات المالية. غير أن نجاحها لا يتوقف على سلامتها الفنية فقط، بل على توافر قرار سياسي جامع، وشراكة حقيقية مع النقابات وهيئة التقاعد، وحوار صريح مع الرأي العام.
فالإصلاح المالي في الحالة الفلسطينية ليس مسألة أرقام وحسابات فحسب، بل اختبار للحوكمة الرشيدة، والعدالة الاجتماعية، والقدرة على الموازنة بين الضرورة الاقتصادية والاستقرار المجتمعي. وهنا تحديدًا، سيتحدد ما إذا كانت هذه الإجراءات بداية مسار إنقاذ حقيقي، أم مجرد إدارة مؤقتة لأزمة مفتوحة.