بيع المساعدات في أسواق غزة خلال الحرب: قراءة توثيقية في ظاهرة إنسانية معقدة

بي دي ان |

08 ديسمبر 2025 الساعة 12:20م

الكاتب
منذ اللحظات الأولى للحرب على قطاع غزة، تدفّقت – بشكل متقطّع ومحدود – مساعدات إنسانية متنوعة شملت الغذاء والمياه والخيام والوقود وبعض المواد الطبية. غير أنه، وبمرور الوقت، بدأت تظهر في الأسواق وعلى الأرصفة وفي بعض المحال التجارية أصناف متعددة من هذه المساعدات معروضة للبيع، بأسعار مرتفعة في كثير من الأحيان، في مشهد صادم لكثير من السكان والمتابعين للشأن الإنساني.

هذه الظاهرة، رغم قسوتها، لم تكن ناتجة عن سبب واحد بسيط، بل جاءت نتيجة تعقيد شديد في الواقع الميداني والاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته الحرب والحصار وانهيار مؤسسات الرقابة والتوزيع.

أولاً: تفكك منظومة التوزيع الرسمية
مع تدمير عدد كبير من المؤسسات الحكومية والمحلية، وتضرر مقار المنظمات الإغاثية، وتعطل آليات التسجيل والمتابعة، فقدت عملية توزيع المساعدات كثيرًا من انتظامها. وفي ظل هذا الفراغ، أصبحت بعض المساعدات تصل إلى أفراد دون آلية واضحة، ليتم تداولها لاحقًا بالبيع أو المقايضة في السوق.

ثانيًا: عوامل الفقر المدقع والجوع
في حالات كثيرة، لم يكن بيع المساعدة ناتجًا عن طمع، بل عن حاجة أشد؛ فقد باعت أسر جزءًا من الطحين أو الزيت أو المعونات لتتمكن من شراء دواء لطفل، أو ماء صالح للشرب، أو تأمين وسيلة انتقال من منطقة خطرة. أصبح البيع وسيلة اضطرارية للبقاء، لا خيارًا تجاريًا حرًا.

ثالثًا: نشوء سوق سوداء في أجواء الفوضى والحصار
في كل الحروب والأزمات الكبرى، يظهر ما يُعرف بـ"اقتصاد الأزمات". ومع غياب الرقابة وندرة السلع، تتحول المساعدات نفسها إلى سلعة نادرة تُباع وتُشترى، وتتدخل فيها شبكات من التجار والمستغلين الذين يرون في المعاناة فرصة للربح.

رابعًا: قصور في العدالة التوزيعية
كثير من العائلات المتضررة لم تحصل على مساعدات أصلًا، بينما وصلت مساعدات متعددة لأشخاص آخرين، ما خلق شعورًا بالغبن، ودفع بعضهم لشراء المساعدات من الأسواق رغم معرفتهم بأنها قُدّمت أساسًا للإغاثة المجانية.

خامسًا: ظهور الوقود الإغاثي في الأسواق
إن ظهور بعض كميات الوقود ذات الطابع الإغاثي في أسواق قطاع غزة خلال فترة الحرب لا يمكن اعتباره اتهامًا مباشرًا لأي جهة رسمية أو مؤسسة خدمية، سواء كانت بلدية أو صحية، إذ إن ظروف الحرب وما رافقها من فوضى أمنية، وانهيار في منظومات النقل والحماية والرقابة، قد أسهمت في خروج جزء من هذه المواد عن مسارها الطبيعي، دون وضوح في الجهة المسؤولة عن ذلك.
وعليه، فإن الإشارة إلى هذه الظاهرة تندرج في إطار التوثيق والتحليل الموضوعي لخلل بنيوي فرضته الأوضاع الاستثنائية، ولا تهدف إلى التشكيك بنزاهة العاملين في المؤسسات الخدمية، الذين أدّوا مهامهم في ظروف غاية في الخطورة والتعقيد.

سادسًا: شهادات ميدانية متكررة
تم رصد مشاهد لبيع:

- طحين يحمل شعارات منظمات دولية
- عبوات مياه إغاثية
- خيام إيواء
- وقود ذو طابع إنساني
- طرود غذائية كاملة

وقد ظهرت هذه المواد في الأسواق الشعبية وعلى عربات متنقلة، وأحيانًا داخل محال تجارية، بأسعار تفوق قيمتها الأصلية أضعافًا، في ظل ندرة شديدة للبدائل.

هل يعني ذلك أن المساعدات فشلت؟
ليس بالضرورة. فقد أنقذت المساعدات آلاف الأرواح، وكان لها دور حاسم في بقاء كثير من الأسر على قيد الحياة. غير أن هذه الظاهرة تكشف أن الإغاثة في زمن الحرب تحتاج إلى أكثر من مجرد إدخال الشاحنات؛ فهي بحاجة إلى بيئة آمنة، ونظام متابعة فعال، وعدالة توزيع، وحماية لسلاسل الإمداد.

توثيق لا اتهام
إن تسجيل هذه الظاهرة لا يهدف إلى التشهير أو التعميم، بل هو محاولة لحفظ الحقيقة للأجيال القادمة، وفهم كيف تتغير السلوكيات الإنسانية عندما تنهار مقومات الحياة الأساسية، وتغيب القواعد الناظمة للمجتمع.

خاتمة
إن ظاهرة بيع المساعدات في غزة تمثل إحدى صور الانهيار العام الذي تخلّفه الحروب على المجتمعات. وهي رسالة واضحة بأن الإنسان عندما يُترك بلا أمن ولا حماية ولا أفق، قد يُدفع إلى أن يتاجر حتى بما قُدِّم له لينجو.

وهذا بحد ذاته يُعد مأساة أخلاقية وإنسانية ينبغي أن تُوثَّق وتُفهم، حتى لا تتكرر.

• رئيس مركز التاريخ الشفوي والتراث الفلسطيني بالجامعة الإسلامية بغزة