اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني: ذكرى تتجدّد في زمن الدمّ والركام

بي دي ان |

29 نوفمبر 2025 الساعة 08:50م

الكاتب
في التاسع والعشرين من نوفمبر من كل عام، يقف العالم أمام واحدة من أهم المحطات في الذاكرة السياسية الفلسطينية. ففي هذا اليوم، الذي أقرّته الأمم المتحدة رسمياً عام 1979 ليكون اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، تتقاطع دلالات التاريخ مع جراح الحاضر. وقد اختارت المنظمة الدولية هذا التاريخ تحديداً ليتزامن مع ذكرى صدور قرار التقسيم رقم 181 في 29 نوفمبر 1947؛ القرار الذي مهّد لواحدة من أكبر المآسي في التاريخ المعاصر، وأطلق شرارة نكبة شعبٍ بأكمله، وما زالت تداعياته ممتدّة حتى اللحظة.
هذا العام، تحلّ الذكرى على وقع واحد من أعنف ما شهدته فلسطين منذ بدء الاحتلال: عدوان صهيو-أمريكي متواصل على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، ارتُكبت خلاله جرائم إبادة جماعية موثّقة، وتطهير عرقي معلن، وحصار وتجويع متعمّد وصل حدّ انتزاع الطعام من أفواه الأطفال لاستخدامه أداة حرب. فقد خسر شعبنا في غزة مئات الآلاف بين شهيد وجريح وأسير ومفقود ومبتور الأطراف غالبيتهم من الأطفال والنساء، فيما تحوّلت البنية التحتية إلى ركام، وتحوّلت غزة بأكملها 365 كم إلى ما يشبه سجادة رمادية ممتدّة من الدمار في مشهدٍ لا يشي إلّا بعقيدة انتقامية واضحة تتجاوز الحرب التقليدية إلى محاولة فاشلة لكسر إرادة شعب، ومسح قطاع غزة كاملاً عن الخارطة.
ما يجري في قطاع غزة جزءٌ من الصورة. ففي الضفة الغربية، بما فيها القدس، الساحة الرئيسة للصراع، يواصل الاحتلال تنفيذ مخطّط تهجير قسري ممنهج، لا سيّما في مخيمات شمال الضفة؛ مخيم جنين وطولكرم ونور شمس، حيث هُدمت البيوت ودُمّرت البنية التحتية، مع اقتحام المدن والقرى والمخيمات بشكل شبه يومي، فضلاً عن مصادرة الأراضي لفرض واقع استيطاني جديد يلتهم ما تبقّى من جغرافيا الضفة الغربية ويقسمها إلى كانتونات. ويُضاف إلى ذلك الاقتحامات المتواصلة للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، في محاولة لفرض سيادة دينية مزعومة والتأسيس لتقسيم مكاني بعد الزماني للمسجد الأقصى على غرار المسجد الإبراهيمي في الخليل. أما اعتداءات المستوطنين، وخاصة مليشيا "شبيبة التلال" المتطرفة، فقد بلغت حدّ الجرائم الممنهجة؛ من مهاجمة القرى وحرق المنازل، وصولاً إلى الاعتداء على المزارعين واقتلاع أشجار الزيتون التي يعتاش منها عشرات الآلاف من الأسر الفلسطينية.
وفي ظل هذه الكوارث الإنسانية والسياسية، برزت الخطط الأمريكية - وتحديداً خطة ترامب - التي أعلنها في 29 سبتمبر 2025 لتضيف طبقة أخرى من الخطورة على المشهد. فهذه الخطة، التي قُدّمت تحت غطاء "وقف إطلاق النار"، لم تكن في جوهرها سوى محاولة للالتفاف على مخرجات مؤتمر إنفاذ حلّ الدولتين الذي قادته السعودية وفرنسا على هامش الدورة الثمانين للأمم المتحدة بتاريخ 22 سبتمبر 2025؛ وذلك لتخليص الاحتلال من عزلته الدولية من جهة، وتوفير غطاء استثماري - سياسي - أمني لإعادة إنتاج منظومة السيطرة على قطاع غزة من جهة أخرى. وقد استندت الخطة إلى مقترحات مستوحاة من رؤية توني بلير التي قدّم فيها إطاراً إدارياً لإدارة غزة في اليوم التالي لانتهاء الحرب تحت وصاية ما يُسمّى "مجلس السلام". وامتدّ الأمر ليشمل خطة كوشنر- ويتكوف الهادفة إلى الاستيلاء على ثروات غزة من الغاز والنفط والأراضي لصالح مشاريع استثمارية أمريكية، وإعادة تعريف القضية الفلسطينية "كقضية إنسانية"، لا كقضية شعب يناضل من أجل الحرية والاستقلال.
وفي هذا السياق، جاء قرار مجلس الأمن رقم 2803 في 17 نوفمبر 2025 ليشكّل حلقة أكثر خطورة. فالقرار، الذي حمل مضامين الفصل السابع دون التصريح بذلك، استعاد نموذج كوسوفو وتيمور الشرقية، وأقرّ قوات الاستقرار الدولية ومجلس السلام كمجلس وصاية دولي. ويُعدّ هذا القرار من أخطر قرارات المنتظم الدولي على الإطلاق في سياق القضية الفلسطينية، إذ صنّف النضال الفلسطيني ضمن خانات "الإرهاب"، وعمّق الفصل الجغرافي والسياسي بين جناحي الوطن، واستبعد الأونروا - الشاهد الحي والتاريخي على قضية اللاجئين بموجب القرار 194 - من دورها الطبيعي. كما فتحت ثغرات القرار الباب أمام قراءات متعددة، تصبّ كلها في اتجاه تقويض أسس القضية الفلسطينية.
ورغم هذا المشهد القاتم، والألم الكبير الذي يعيشه شعبنا في كل مكان، يبقى التضامن الدولي اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى. فعندما يتحوّل الجوع إلى أداة حرب، يصبح التضامن فعل مواجهة حقيقية، لا مجرد بيان دبلوماسي أو موقف بروتوكولي. إنّه إعلان يقظة ضمير عالمي يقول بوضوح: إن فلسطين ليست ملفاً إنسانياً قابلاً للتدوير، وليست فرصة استثمارية كما يريدها الأمريكان أصحاب المشاريع العملاقة، بل هي قضية شعبٍ حيّ يناضل من أجل الحرية والعدالة والكرامة، ويسعى إلى الانعتاق من احتلال غاشم ليقيم دولته المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
إن قراءة المشهد الفلسطيني اليوم تكشف أن الصراع يزداد حدّة يوماً بعد يوم. ومع نزيف غزة الذي لا يتوقف، وحصار الضفة، وتهجير مخيمات شمالها، وتغوّل المستوطنين، ورغم الدمار الهائل وفقدان الأحبة والبيوت والذكريات… ما زال في القنديل بقية زيت، والأمل حقيقة لا خيالاً. وتبقى فلسطين قضية لا تموت بقرار، ولا ينهيها عدوان، ولا تطمس سرديتها خطط أو آلة إعلام مهما بلغت قوتها. ومن يظن غير ذلك فهو واهم، وعليه إعادة قراءة المشهد من جديد.
بهذه الروح، يأتي اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني هذا العام، لا كتقليد أممي، بل كصرخة ضمير ووقفة إنسانية وسياسية تضع العالم أمام مسؤوليته: فلسطين ليست وحيدة… ولن تكون.

جمال أبوغليون
[email protected]