العلاقة بين الفكر والسياسة

بي دي ان |

17 نوفمبر 2025 الساعة 12:38م

الكاتب
علمتنا دروس التاريخ المعاصر، التعامل مع محددات المحطات السياسية انطلاقا من عوامل القوة والرموز المؤثرة في صناعة القرار، بعيدا عن الخلفيات الفكرية والشعارات السياسية الملازمة لها، التي ينطلق منها هذا الكاتب أو ذلك الحزب او تلك الدولة، ودون الفصل التعسفي والميكانيكي بين الخلفية الفكرية وأدواتها المعرفية السياسية، وبين الواقع. لكن للضرورة السياسية أحكامها في محطات تاريخية عاصفة واستثنائية، كالتي تعيشها القضية والشعب والقيادة الفلسطينية في زمن الحرب الإسرائيلية القذرة والوحشية على مدار العامين الماضيين، التي شهدت تحولات نوعية هامة لصالح الأهداف والمصالح الفلسطينية على الصعد السياسية والدبلوماسية والقانونية والرأي العام العالمي.
إذا على أهمية الفكر كبوصلة للنضال الوطني القومي والاجتماعي للقوى وقادة الرأي والكتاب والأحزاب بمشاربها المختلفة، الا أن العمليات السياسية في محطات تاريخية غالبا ما تستدعي تدوير زوايا للخروج من نفق مأزق سياسي لتحقيق هدف أو أهداف لصالح الشعب او الطبقة والفئات الاجتماعية، بيد ان المناورة التكتيكية في لحظة بعينها، لا تعني الاستدارة الكاملة، وتقديم تنازلات تهدم المعبد، فالواقعية السياسية بقدر ما تتطلب المناورة المؤقتة، والتراجع النسبي خطوة للخلف، بقدر ما تملي التمسك بالرؤية القومية أو الاجتماعية لبلوغ الأهداف الاستراتيجية.
فعلى الصعيد الفلسطيني والصراع مع العدو الإسرائيلي الأميركي، وفي ظل موازين القوى المجحفة والمائلة حتى اللحظة الراهنة بشكل كبير لصالح الأعداء، رغم التحولات الكيفية التي احدثتها حرب العامين والابادة الجماعية 2023 – 2025 لصالح السردية الفلسطينية، والإنجازات الفلسطينية على الصعد المذكورة آنفا. ونتاج العاملان الذاتي والموضوعي، فإن المسؤولية الوطنية دفعت قيادة منظمة التحرير والدولة الفلسطينية الواقعة تحت نير الاستعمار الإسرائيلي النازي على مدار عقود الصراع الطويلة، الى التعامل مع مسودة مشروع القرار الأميركي، ليس لأنه الأفضل، ولكنه القابل للتحقيق في الوقت الراهن، رغم كل التشوهات والمثالب التي تشوبه، والنواقص الفادحة في مركباته، التي تنتقص من المصالح والحقوق الوطنية الفلسطينية.
ويعود السبب الى هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على مقاليد الأمور في الملف الفلسطيني الإسرائيلي، وسطوتها المركزية على القرار الرسمي العربي، وعدم تمكن الأقطاب الدولية المنافسة للقطب الاميركي، وخاصة الصين وروسيا من إحداث الانزياح الجيو سياسي المطلوب لإزاحته عن سدة القرار الدولي عموما، وفي الملف الفلسطيني الإسرائيلي خاصة، وليس حبا، أو تماهيا مع المخطط الأميركي الخطير، رغم التحسينات النسبية في التعديل الثاني لمسودة مشروع القرار.
وساذج ومغفل كل وطني وقومي ديمقراطي كاتبا أم حزبا أو دولة وحكومة راهن للحظة على الولايات المتحدة الأميركية، التي ناصبت المصالح والحقوق الوطنية والقومية الفلسطينية والعربية العداء على مدار تاريخ الصراع من بداية القرن العشرين وحتى الان، وتعمق العداء بعد الحرب العالمية الثانية مع إقامة دولة إسرائيل اللقيطة، حيث لعبت دورا مركزيا مع بريطانيا ودول الغرب الرأسمالي في تأسيس وتعويم الاعتراف بدولة المشروع الصهيوني، وتقديم كل اشكال الدعم السياسي والدبلوماسي والقانوني والعسكري والأمني والاقتصادي والمالي لبقائها وسيطرتها على الأرض العربية المحتلة عموما وفلسطين خصوصا.
ورغم ذلك، فإن التعامل مع الإدارات الأميركية أملته الضرورات السياسية والدبلوماسية وموازين القوى، ولم يكن قرارا استراتيجيا، ولخدمة الأهداف الوطنية. لا سيما وان القيادات الفلسطينية المختلفة كان لسان حالها يقول: لم تدخل الولايات المتحدة على مسار سياسي فلسطيني إسرائيلي، أو أي مسار يخص القضية الفلسطينية في أي محفل الا وعطلته، وأغلقت أبواب العملية السياسية أمامه. كما ان القادة العرب الذين تعاملوا وتحالفوا مع واشنطن، أعلنوا وبلسان الرئيس المصري السابق الراحل حسني مبارك "المتغطي بأميركا عريان" ولكن النفوذ الأميركي المهيمن على مقاليد السياسة العالمية وفي الوطن العربي والاقليم، ونتاج تبعية العديد من الأنظمة العربية، أطلق يدها أكثر فأكثر في الدول العربية، وعزز مكانة وسطوة الدولة الإسرائيلية اللقيطة والنازية في الإقليم، وليس في الوطن العربي فقط، وتحكمت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية في مطلع تسعينيات القرن الماضي في قرون السياسة العالمية، وفرضت المنظومة العالمية المتوحشة على العالم، وباتت القطب الدولي الاول غير المنازع حتى الازمة الاقتصادية الحادة في اميركا في الربع الأخير من عام 2008، حيث بدأ التراجع النسبي لمكانتها، ومازالت الأقطاب المنافسة تتقدم تدريجيا نحو مشروع بناء منظومة عالمية متعددة الأقطاب، لكن مقاليد الأمور حتى الان مازالت تميل لصالحها في العديد من أقاليم العالم، وإن كانت بدرجة أقل.
النتيجة الهامة مما تقدم، تتطلب من كل صاحب قرار وحزب سياسي وكاتب وطني وقومي ديمقراطي التدقيق قبل إطلاق الاحكام غير الدقيقة، والتمييز بين التعامل التكتيكي وبين الأهداف الاستراتيجية، حتى لا يفقد أي منهم بوصلته.
[email protected]
[email protected]