كوارث اجتماعية ملفتة للانتباه

بي دي ان |

16 نوفمبر 2025 الساعة 11:00ص

الكاتب
اقول دائما أن الحرب توقفت نسبياً ولكن الموت اليومي لم يتوقف.. فما نشاهده كل لحظة من مشاهد توجع القلب يجعلنا نتكلم ونكتب لعلنا نوصل معاناة شعبنا إلى اسماع وقلوب اصحاب الضمير في العالم.
ان افظع ما نشاهده في قطاع غزة بعد الحرب هو الاعاقات الجسدية في اوساط الشباب والفتيات وحتى الأطفال .. لا يمكن أن تمشي أي مشوار الا وتصادف شاب منهك من العكازتين يتصبب وجهه عرقا ورجله مبتورة من فوق الركبة ويعجز عن اجتياز شارع خوفا من أن تصدمه سيارة يقودها شاب فقد احدى عينيه بسبب قناص صهيوني .. او عربة حصان يقودها فتى بيد واحدة بعد ان تم بتر الأخرى اثر شظية ثقيلة انشطرت من صاروخ يزن 2 طن في لحظة قصف منزل مجاور ..
لا يمكن أن تذهب إلى أي مشوار إلا وتصادف فتاة تمسك بيدها عكاز وساقها محاطة بأسياخ البلاتين وتمشي بحذر حتى لا تسقط وببطءحتى لا تبدو عرجاء وهي عائدة من جلسة علاج طبيعي لعلها تعود الى المشي الطبيعي بعد اصابتها في استهداف سوق تجاري وعينيها تحكي قصة توتر وقلق من المستقبل لانها فتاة وتتمنى ان تصبح يوما زوجة وأم ولا يمكن أن يتحقق ذلك إذا كان في الفتاة عيب خلقي .. فما هو رأيكم إذا علمتم ان هناك مئات الفتيات فقدن طرف او طرفين او عين واحدة او الاثنتين ومن يذهب الى العيادات والمستشفيات الميدانية يدرك تماما حجم الكارثة وانها اصبحت ظاهرة ملفتة للإنتباه ، ان ترى معاقين او معاقات ومشوهين ومشوهات ومصابين بأمراض جلدية خطيرة معدية(نتيجة الحفر الامتصاصية الملاصقة للخيام) في أي مشوار بسيط وهذا يعني أنهم اصبحوا يشكلون نسبة كبيرة جدا في المجتمع وهذا عبء اجتماعي واقتصادي خطير جدا ويجب العمل على ايجاد حلول ابداعية للتعامل مع هذه النسبة الكبيرة من المعاقين والمرضى في قطاع غزة.. والله إنها طامة كبرى وليست مجرد كارثة ويترتب عليها آثار نفسية خطيرة على المصاب نفسه قد تدفعه للإنتحار كما تؤثر على نفسية المحيطين به مهما تظاهروا بالصبر خصوصا في ظل الفقر والبطالة وانعدام مصادر الدخل وكثرة تكاليف الاهتمام بالمعاق او المصاب من بامبرز وطعام خاص ووقت واهتمام خاص .. وهذا الجانب النفسي له آثار اجتماعية مدمرة على المعاقين والمصابين وعلى أهاليهم وانا اعرف اشخاص كانوا عقلاء ومتعلمين ولكنهم فقدوا عقولهم تماماً واصبحوا مجانين متشردين في الشوارع وذلك لأنهم فقدوا عائلاتهم كلها او فقدوا بيوتهم او عاشوا أوقات خوف ورعب طويلة وأعرف فتاة اصيبت بالخرس التام نتيجة رؤيتها لاعدام اهلها امامها على يد قوات خاصة صهيونية
ان كل ما تقدم أدى ويؤدي
الى ظهور سلوكيات ونتائج سلبية خطيرة جدا في المجتمع ويتزامن مع ذلك ظواهر التسول والاحتيال بكل اشكاله سواء واقعي او الكتروني وتجارة المخدرات وتجارة السجائر وحوادث السرقة والطعن واطلاق النار وظاهرة الكلاب الضالة بالعشرات ليلاً بين الخيام والتي تعودت على التهام جثث البشر فاصبحت تهاجم الاحياء وتسببت بظهور داء السعار في غياب اعلامي عن هذه الظاهرة المرعبة جدا ويترافق مع ذلك ليلاً ظاهرة تثبيت المدنيين تحت تأثير السلاح واخذ هواتفهم وأية اغراض معهم وغير ذلك من مظاهر اجرامية نتيجة الفراغ الأمني والقانوني مما يجعل الجميع يفقدون الشعور بالأمان وفوق كل ذلك هناك اصابع للإحتلال تشعل الفتنة والفوضى داخل المجتمع ثم ينساق الكثيرين للتعصب العائلي بغباء مفرط.
إن المطلوب الآن وباختصار
وبشكل عاجل وعملي هو تكاتف كل مَن تبقى مِن عقلاء هذا الشعب لمعالجة كل الآثار السلبية المترتبة على هذه الحرب الملعونة .. إن ما خسره الشعب الفلسطيني خلال سنتين في هذه الحرب ، لا يحتاج علاج آثاره الى مجرد اعادة إعمار ، او تأمين رواتب ومصادر للدخل او مساعدات فقط ، ولا يقاس اثره الكارثي بالخسائر البشرية والمادية الفظيعة ، بل يقاس بالزمن الذي تسرّب من بين ايدينا ، يقاس بالجيل الذي كبر سنوات في ظل الحرب بدلا من أن يكبر في ظل الحلم ، سنتين اكثر قسوة من حرب عالمية ثالثة ، غربة داخل الوطن ونزوح وتهجير  وقصف وتدمير كل البلد ، وضياع الطاقات والعقول وتلف الروح ، وانكسار الطفولة ، وتشويه الوعي الجماعي ، لقد تحولت حياة الناس إلى طوابير ذل في كل مجالات الحياة ، وانتظار طويل بلا أفق ، وقلق دائم ، ووجع كبير وعميق يلامس قلوب وكرامة الجميع بلا استثناء، آلاف الجرحى والمعاقين والارامل والأيتام والمعتقلين والمفقودين والمحتاجين ، سنتين تحوّل فيها الوطن الى ذاكرة مثقلة بالحزن والخوف والكراهية للحياة في هذا الوطن ، علما ان قطاع غزة ليس وطننا بل نحن لاجئين فيه وانما وطننا هو فلسطين كاملة من بحرها الى نهرها ، والتي احتلها اليهود سنة 1948 ورغم ذلك رضيت احزابنا وقياداتنا بحدود 1967 كوطن ، ثم استكثر الاحتلال الصهيوني علينا هذا القطاع فقام بتدميره عدة مرات وحاليا تم احتلال نصفه وتشريد سكانه ، إن المأساة ليست فقط في خراب المدن والمخيمات ، بل الكارثة في خراب روح الحياة في الإنسان حين يفقد الثقة في المستقبل داخل الوطن ، وحين يشعر ان كل ما بناه تم هدمه بلا سبب ولا هدف ولا مقابل ، وهكذا تضيع سنوات العمر وانت تراوح مكانك ، فهل سيكون هناك حكومة او ادارة تكنوقراطية تعيد بناء الانسان وبناء الوطن وقبل كل ذلك اعادة بناء ثقة الانسان في المستقبل داخل الوطن ؟؟